موقف أحمد ابن حنبل من الدولة

موقف أحمد ابن حنبل من الدولة

موقف أحمد ابن حنبل من الدولة

 العرب اليوم -

موقف أحمد ابن حنبل من الدولة

خالد الدخيل
بقلم - خالد الدخيل

كيف يمكن تفسير موقف إبن حنبل الذي يكفر القول بخلق القرآن من ناحية، ولا يجيز الخروج على الخليفة الذي يتبنى هذه العقيدة الكفرية قولاً وعملاً، من ناحية ثانية؟ يزداد إلحاح السؤال إذا علمنا بأن هذا الخليفة لم يكتفِ بتبني القول بخلق القرآن، بل عمل على فرضه بقوة سلطته العارية وليس بمستندات وتخريجات دينية كان يأخذ بها ويستند إليها في تبني هذا الموقف. وقد حصل ذلك أثناء ما يعرف بمحنة خلق القرآن التي بدأت مع الخليفة المأمون وإنتهت بوفاة الخليفة الواثق. وكنت قد ذكرت من قبل هنا، بأن موقف ابن حنبل هذا يعبر أيما تعبير عن موقفين متمايزين ومتوازيين بشكل جلي. الأول قناعته الراسخة بكفر القول بخلق القرآن، وهي قناعة لم يتزحزح عنها قيد أنملة تحت وطأة التعذيب الذي تعرض له. وهي قناعة مبناها وسداها عقيدة دينية مستمدة من الكتاب والسنة. ولذلك كان يردد في كل مرة كان يسأل فيها أثناء المحنة عن القول بخلق القرآن، «أئتوني بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله». في موازاة ذلك كان رفض ابن حنبل القاطع (الموقف الثاني) الخروج على الخليفة حتى ولو تبنى عقيدة كفرية. نحن أمام موقف يأتينا من القرن 3هـ/9م يفصل الدين ومقتضياته عن السياسة والدولة ومقتضياتها. وهو موقف يمكن القول إنه يعكس صيغة علمانية إسلامية مبكرة يعبر عما تتميز به المدرسة السلفية بمرونة فقهية سياسية تتساكن مع تشدد عقدي لا تخطئه عين. كيف يمكن تفسير ذلك؟ (أنظر الحياة، الأحد 31 كانون الأول/ ديسمبر 2017).

كان المستشرق الأميركي مايكل كوك قد تناول بالتفصيل آراء ومواقف أحمد بن حنبل من مسألة الأمر بالمعروف، وذلك في كتابه (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي). وقد لاحظ هذا المستشرق الاختلاف الواضح في رؤية الحنابلة لمسألة العلاقة بين القناعة الدينية للفرد وموقفه من السلطة، وذلك بين زمن ابن حنبل والأزمنة التالية. كان ابن حنبل أقرب في شخصيته إلى رجل دين متبتل في محراب الدين، زاهد في الدينا ومغرياتها، وزاهد في السلطة السياسية والاقتراب منها. بعد أحمد سوف يتغير الأمر. سيكون لأجيال الحنابلة من بعده موقف مختلف من المسألة السياسية وعلاقتها بالدين. كانوا أكثر إقبالا على النشاط السياسي، بل وعلى الصدام مع الدولة من منطلقات دينية، على العكس مما كان عليه إمامهم. ويرى مايكل كوك أن هذا الاختلاف لا يعود بشكل أساسي إلى المذهب الحنبلي، وإنما إلى اختلاف في الأزمنة وظروفها، وتحديداً في قوة الدولة وهيبتها في زمن ابن حنبل (القرن 3م/9هـ)، ثم تراجع سلطة هذه الدولة وهيبتها في زمن الأجيال التالية، بخاصة في القرنين 4-5هـ/10-11م، حيث استحالت الإمبراطورية العباسية إلى دولة هلامية انتزعت سلطاتها أنظمة عسكريتارية أقامها البويهيون والسلاجقة تباعاً (أنظر ص204).

من الناحية التاريخية فإن ما يشير إليه كوك من إختلافات في قوة سلطة الدولة وهيبتها في زمن ابن حنبل، بالمقارنة مع تراجع هذه السلطة في زمن الأجيال التالية للحنابلة صحيح. بل ويبدو أن هذا الاختلاف يوفر تفسيراً منطقياً لاختلاف مواقف أجيال الحنابلة من مسألة العلاقة بين الدين والدولة. لكن هناك ملاحظات تاريخية أخرى تلقي بظلالها على صلاحية مثل هذا التفسير. أول هذه الملاحظات أن موقف ابن حنبل نفسه من الدولة وسلطتها ظل واحداً لم يتغير سواء في زمن الخلفاء الثلاثة (المأمون والمعتصم والواثق) الذين كانوا يتخذون موقفاً معادياً من أهل الحديث، وأبرزهم ابن حنبل نفسه، وعلى أساسه أجروا محنة القول بخلق القرآن، أو في زمن الخليفة المتوكل الذي جاء بعد الواثق، ووضع حداً للمحنة وانتصر لأهل الحديث. ظل موقف ابن حنبل متشدداً في رفض أي شكل من أشكال الإرتباط بالدولة أو التحالف معها. رفض تولي القضاء، وزيارة الخليفة، كما رفض أعطياته وهداياه، في زمن خلفاء المحنة، وفي زمن المتوكل أيضاً. ما يعني أن موقف ابن حنبل من الدولة وشرعيتها، وأن هذه الشرعية ليست محصورة في بعدها الديني، هو في أساسه موقف ديني – عقدي (أو قل موقف فكري راسخ ومسبق) لا علاقة له، على الأقل علاقة مباشرة بقوة سلطة الدولة وهيبتها، أو بموقفها منه ومن المذهب الذي كان يمثله.

الملاحظة الثانية مأخوذة من تاريخ حنبلي متأخر، وأعني بذلك ظهور الحركة الوهابية في وسط الجزيرة العربية في منتصف القرن 12هـ/18م، أي بعد حوالي تسعة قرون من زمن ابن حنبل. في هذا الزمن، وفي ذلك المكان لم تكن الدولة هلامية وهيبتها مهلهلة وحسب، بل لم تكن موجودة أصلا. في هذا الإطار كان الموقف السياسي لمؤسس الوهابية، الشيخ محمد بن عبدالوهاب، يختلف عن موقف إمام المذهب، وأقرب إلى موقف الأجيال التالية من الحنابلة التي جاءت بعد ابن حنبل في عهد البويهيين والسلاجقة. وهذا واضح من حيث أنه أولاً جاء معه بفكرة الدولة المركزية في الجزيرة، وثانياً ساهم بشكل مباشر في تأسيس هذه الدولة. سيبدو في هذا الملمح وكأن تفسير مايكل كوك يستعيد قوته وصلاحيته المنطقية. فغياب الدولة شبيه بضعفها. لكن الحقيقة أنه رغم إنغماس الشيخ محمد في العملية السياسية إبان تأسيس الدولة، كان موقفه العقدي من مسألة شرعية الدولة، ومن العلاقة بين الدين والدولة لا يختلف كثيراً عن موقف ابن حنبل، وأبعد ما يكون من موقف أجيال الحنابلة في زمن البويهيين والسلاجقة. ومرد ذلك يعود إلى أن الموقف السياسي لابن عبدالوهاب أملته الظروف التاريخية في الجزيرة العربية آنذاك، وتحديداً غياب الدولة، والحاجة الماسة إليها. من هذه الزاوية فإن ظهور الوهابية ونجاحها، وعلى عكس ما هو شائع في أغلب الأدبيات عن هذه الحركة، لا يمكن تفسيره إلا كتعبير عن نضوج عملية تشكل الدولة في الجزيرة في تلك المرحلة، وليس بعوامل أخرى خارج هذا الإطار. وما يؤكد أن الموقف السياسي للوهابية هو امتداد لموقف الإمام أحمد أنها الحركة الإسلامية الوحيدة تقريبا في التاريخ الإسلامي التي أسست نظريا، وإلى حد كبير عمليا، لفصل المجال الديني عن المجال السياسي، وأن تكون الشريعة (كقانون) هي الرابط بينهما. وما يميز الوهابية من هذه الناحية، وعلى رغم أنها هي من جاءت بفكرة الدولة وساهمت في تأسيسها، إلا أن قادتها وكوادرها عبر أكثر من قرنين ونصف، وعلى رغم سقوط الدولة مرتين في تاريخها، لم يتجاوزوا حدود مجالهم الديني، ولم يتطلعوا إلى قيادة سياسية. وبهذا تختلف عن جميع الحركات الإسلامية تقريباً، بأنها قدمت التطبيق العملي لموقف الإمام أحمد النظري. وهو ما يسمح بالقول إن الوهابية قدمت ما يمكن وصفه بصيغة علمانية أولية من منطلق إسلامي مبكر. للحديث بقية.

نقلًا عن جريدة الحياة

arabstoday

GMT 07:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 07:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 07:01 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 06:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 06:56 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 06:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 06:52 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 06:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

موقف أحمد ابن حنبل من الدولة موقف أحمد ابن حنبل من الدولة



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 العرب اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
 العرب اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 العرب اليوم - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 07:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 05:57 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاة نهال عنبر وأسرتها من موت محقق

GMT 22:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 3 جنود لبنانيين في قصف إسرائيلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيب غوارديولا يوافق على عقد جديد مع مانشستر سيتي

GMT 18:37 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن تفرض عقوبات على 6 قادة من حركة حماس

GMT 16:42 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

جماعة الحوثي تعلن استهداف سفينة في البحر الأحمر

GMT 08:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يُعلّق على فوزه بجائزة عمر الشريف

GMT 06:43 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 11:51 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تليغرام يطلق تحديثات ضخمة لاستعادة ثقة مستخدميه من جديد

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد العوضي يكشف عن بطلة مسلسله بعد انتقاد الجمهور

GMT 06:02 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 03:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تطالب بتبني قرار لوقف إطلاق النار في قطاع غزة

GMT 06:00 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتلة صورة النصر

GMT 18:42 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 18:00 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يكشف سر تكريم أحمد عز في مهرجان القاهرة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab