الوهابية مراجعة أخرى

الوهابية: مراجعة أخرى

الوهابية: مراجعة أخرى

 العرب اليوم -

الوهابية مراجعة أخرى

خالد الدخيل

الغالبية الساحقة ممن كتبوا عن الوهابية في الماضي أو الحاضر، بخاصة من غير السعوديين، لا يعرفون شيئاً عن التاريخ المحلي للجزيرة العربية قبل ظهور الحركة الذي أفضى إلى ظهورها، من ثم لا يعرفون عن هذه الحركة ما يبرر لهم اتخاذ موقف موضوعي منها يمكن القول إنه يستند إلى معرفة مباشرة ولصيقة بتاريخ هذه الدعوة.

هناك ثلاث مساهمات كبيرة قامت بها الوهابية بعد إنطلاقها في وسط الجزيرة العربية في منتصف القرن 12هـ/18م. المساهمة الأولى أنها جاءت بفكرة الدولة المركزية إلى الفضاء الاجتماعي والسياسي للجزيرة العربية. بهذا يكون ظهور الوهابية بداية دخول الجزيرة إلى مرحلة العصر الحديث. وذلك بناء على أن الدولة السعودية التي نشأت آنذاك كانت البداية التي وضعت ركيزة سياسية للدولة الوطنية التي نعرفها الآن. الصفة الثانية أن ارتكاز الحركة إلى فكرة التوحيد وما ترتب على ذلك من محاربة صارمة لكل المعتقدات والسلوكيات التي تتعارض مع هذه الفكرة، جعل من الوهابية حركة أكثر ميلاً لمناهضة الخرافة والسحر والشعوذة، وبالتالي جعل منها حركة تنطوي على نزعة عقلانية كامنة تنتظر من يخرجها من كمونها ويأخذها إلى أبعد مما تبدو عليه. تتضح هذه النزعة من أن فكرة التوحيد في الوهابية لم تكن في الحقيقة محصورة في بعدها الديني العقدي، وإنما تجاوزت ذلك، وبالتوازي معه، إلى البعد أو التوحيد السياسي. واللافت هنا أن الزمن الذي ظهرت فيه الوهابية بدعوتها إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له من دون سواه، كان زمن الحاجة الملحة إلى التوحيد السياسي لوسط الجزيرة العربية. كان الإنقسام السياسي في هذه المنطقة آنذاك حاداً، وسبباً لحروب ونزاعات لا تنتهي بين إمارات، أو مدن مستقلة. ومع أن الشائع في الأدبيات هو تفشي الشرك، وأن هذا كان السبب الأهم وراء ظهور الوهابية، إلا أنه يتبين بالبحث أن هذا الشرك كان الأقل حضوراً، والأدنى تأثيراً في مسيرة الأحداث.

على العكس من ذلك كان الانقسام، وعدم الاستقرار السياسي هو السمة البارزة في الجزيرة العربية في تلك المرحلة. في منتصف القرن 12هـ/18 مكان مجتمع الحاضرة في وسط الجزيرة ضحية لحروب ونزاعات بين الإمارات لا تنتهي، ولتتالي ظواهر الجفاف والمجاعات والأوبئة. بعبارة أخرى، كان هذا المجتمع على حافة الإنهيار. وكانت هذه الحالة المدمرة هي الموضوع الأبرز في كل المصادر المحلية من دون إستثناء إبان، وقبل ظهور الحركة الوهابية. في مقابل ذلك نجد أن موضوع الشرك بدلالته الدينية لا وجود له في هذه المصادر، وهي أول وأهم المصادر الأولية عن تاريخ هذه المرحلة. إلى ماذا يشير ذلك؟ يشير مباشرة إلى أن ظهور الحركة كان استجابة لحالة اجتماعية سياسية، وليس لحالة دينية تميزت بالإنحراف العقدي وتفشي الشرك.

البعد العقلاني الواضح سياسياً في موقف الوهابية هنا، وقبله وبعده موقف الدولة السعودية الأولى بعد قيامها، أنه كان يدفع باتجاه خيار الوحدة السياسية كمخرج لمجتمع الحاضرة من المأزق الذي انزلق إليه في ظل الوضع السياسي المضطرب للمدن المستقلة آنذاك وحروبها التي لا تنتهي، والتي كانت من دون أفق. هنا يبرز سؤال ذو صلة: ما هو الفرق في هذه الحالة بين الإنحياز لخيار الإنقسام السياسي وتعددية السلطات السياسية، من ناحية، والإنحياز لخيار تبنى الوحدة السياسية وما تتطلبه من سلطة مركزية؟ هذا في الحقيقة أحد أهم الأسئلة التي تفرض نفسها أمام الخلاف الذي نشأ منذ بداية الدعوة بين الإمام محمد بن عبدالوهاب وخصومه، وهم مشايخ حنابلة مثله، حول المعنى الديني للشرك؟ وهو سؤال يعني أن الخلاف بين هذين الخيارين كان يضمر خلافاً سياسياً أيضاً، ولم يكن مقتصراً على المعنى الديني المباشر لهذا المفهوم. أي أنه كان خلافاً بين من يترتب على رؤيته للشرك تمسك بالوضع السياسي للمدن المستقلة القائم آنذاك، ومن يترتب على رؤيته للمفهوم ذاته تغيير ذلك الوضع بانضمام تلك المدن أو الإمارات إلى الدولة الناشئة، وهم أنصار الدعوة. واللافت في هذا الاختلاف أن من كان يأخذ برأي أقل تشدداً للشرك بمعناه الديني كان عملياً مع بقاء الإنقسام السياسي، ومناهضة التوجه الوحدوي للدولة الناشئة. على العكس من ذلك تماماً كان موقف الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأتباعه. هل كان المعارضون لتغيير الواقع السياسي القائم إنطلاقاً من قناعة سياسية وأيديولوجية؟ أم أنهم كانوا يعارضون التوحيد السياسي لمجرد أنه كان مشروع خصومهم وحسب؟

مهما يكن ينبغي الإلتفات إلى حقيقة تتضح في هذا الخلاف، وهي أن الوهابيين برأيهم المتشدد عقدياً في موضوع الشرك بدلالته الدينية، كانوا متشددين أيضاً في موضوع التوحيد السياسي. وهذا بحد ذاته يعني أن التشدد العقدي كان على صلة بالظرف السياسي، ليس بمعنى أن هذا الظرف هو السبب الوحيد وراء هذا التشدد. وإنما بمعنى أن التشدد العقدي في هذه الحالة لا يمكن الإلمام بمعناه ومبرراته من دون أخذ هذا الظرف السياسي في الإعتبار.المهم أنه في هذا الإطار بدأ الشرك بدلالته السياسية يظهر في أدبيات الحركة، بخاصة لدى مؤرخ الدعوة الشيخ حسين بن غنام. وأبرز مظاهر ذلك لدى هذا المؤرخ وصفه كل مقاومة للدولة، أو محاولة للانفصال عنها بأنها ردة. كأن لسان حاله يقول بأن إزالة الشرك بمعناه الديني، وما يضمره من تعدد لللآلهة الدينية تتطلب أيضاً إزالة الشرك بمعناه السياسي المتمثل بظاهرة المدن المستقلة، وما تنطوي عليه هذه الظاهرة من إنقسام وتعدد للسلطات السياسية. وإذا عرفنا أن الشرك بدلالته الدينية، بخاصة الشرك المؤسساتي المتمثل بالمزارات والأضرحة، كان ضئيلاً في شكل لافت في نجد، تتبدى لنا الدلالة السياسية في هذا السياق أكثر من غيرها.

لعله من الواضح هنا تضافر العقلانية الثقافية المضمرة في مفهوم التوحيد لدى الوهابيين، كما تتبدى في مناهضتهم للخرافة والخزعبلات الدينية من خلال تشددهم في موضوع الشرك، مع العقلانية السياسية كما تتبدى في تشددهم بالتمسك بخيار التوحيد السياسي والسلطة المركزية كبديل للحالة السياسية المزرية التي كان يعاني منها مجتمع الحاضرة في نجد وغيرها حتى ظهور الحركة. لا أظن أنه يمكن الفصل بين الإثنين، أي الدلالة الدينية والسياسية لكل من التوحيد والشرك كمفهومين مركزيين في الوهابية، والتجربة السياسية للدولة السعودية. تداخل هاتان الدلالتان ينطوي على صيغة للعلاقة بين الديني والسياسي في الدولة. وهي المساهمة الثالثة للوهابية باعتبارها امتداداً للمدرسة الحنبلية ومفهومها لهذه العلاقة. ولهذا حديث آخر نظراً الى ضيق المساحة.

 

arabstoday

GMT 01:46 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

بائع الفستق

GMT 01:44 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

على هامش سؤال «النظام» و «المجتمع» في سوريّا

GMT 01:42 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

دمشق... مصافحات ومصارحات

GMT 01:40 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

السعودية وسوريا... التاريخ والواقع

GMT 01:38 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

ورقة «الأقليات» في سوريا... ما لها وما عليها

GMT 01:36 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

امتحانات ترمب الصعبة

GMT 01:33 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

تجربة بريطانية مثيرة للجدل في أوساط التعليم

GMT 01:29 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

موسم الكرز

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الوهابية مراجعة أخرى الوهابية مراجعة أخرى



الأسود يُهيمن على إطلالات ياسمين صبري في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:39 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
 العرب اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 08:03 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
 العرب اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 07:49 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
 العرب اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 19:57 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

دراسة حديثة تكشف علاقة الكوابيس الليلية بالخرف

GMT 06:40 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

2024 سنة نجاحات مغربيّة

GMT 06:32 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

هل قرأت افتتاحية «داعش» اليوم؟!

GMT 08:12 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

ممرات الشرق الآمنة ما بعد الأسد

GMT 09:29 2025 الخميس ,02 كانون الثاني / يناير

للمرة الأولى بعد «الطائف» هناك فرصة لبناء الدولة!

GMT 14:10 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

رسميا الكويت تستضيف بطولة أساطير الخليج

GMT 06:30 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

ما تم اكتشافه بعد سقوط النظام السوري!

GMT 11:26 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا يتفقدان سجن صيدنايا في سوريا

GMT 14:14 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

زلزال بقوة 4.7 درجة يضرب مدينة "سيبي" الباكستانية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab