ذكرتني الحملة الشرسة المتصاعدة حاليا في الاردن، ولم يهدأ غبارها بعد، وتتمحور حول مطالبة بعض النواب بسحب الجوازات الاردنية من مسؤولي السلطة الفلسطينية، على ارضية الازمة التي فجرها اللواء جبريل الرجوب رئيس اتحاد كرة القدم الفلسطيني، بعدم تصويته للامير علي بن الحسين، رغم نفيه لهذه التهمة، ذكرتني بحادثة كان طرفها الرئيس الراحل ياسر عرفات كنت شاهدا على بعض جوانبها.
بعد توقيع اتفاقات اوسلو ساءت العلاقة بين الرئيس الفلسطيني واحد اعضاء اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، ووصلت الامور الى درجة القطيعة، فطلب مني الاخير، وهو صديق من ابناء القطاع، ان اتدخل لاصلاح ذات البين، بحكم علاقتي الطيبة مع الرئيس عرفات في حينها، وعضويتي “المكتومة” في المجلس الوطني الفلسطيني.
الرئيس عرفات استمع الى مداخلتي الدفاعية باهتمام شديد، ووعدني ان يبادر بالاتصال بالرجل، وينهي الجفوة، وهذا ما حدث لاحقا، ولكنه بادرني بسرد بعض مآخذه على الرجل، وكان من بينها انه طلب في احدى زياراته لعمان مقابلة العاهل الاردني الراحل الملك حسين، بصفته الرسمية كعضو في اللجنة التنفيذية، وكان سبب المقابلة الحقيقي طلب الحصول على جواز سفر اردني، ولم يخيب العاهل الراحل طلبه، كعادته في حالات مماثلة، واصدر مرسوما بمنحه واسرته الجنسية الاردنية.
الرئيس عرفات كان غاضبا من هذه المسألة، وقال انه رتب للرجل للحصول على ثلاثة جوازت سفر دبلوماسية، واحد من الجزائر، وثان من تونس، وثالث من موريتانيا، على ما اذكر، فماذا يريد اكثر من ذلك؟ قال متساءلا، لماذا يريد جواز السفر الاردني؟ هل هوايته تجميع جوازات السفر؟
بالمناسبة الرئيس عرفات كان يستخدم جواز سفر جزائري طوال اقامته خارج فلسطين، وبعد عودته الى رام الله وغزة، اصبح يستخدم جواز سفر السلطة الفلسطينية.
***
بداية لا بد من الاعتراف بأن كاتب هذه السطور جاء الى الاردن بعد نكسة حزيران (يونيو) عام 1967، كنازح من قطاع غزة، وكان عمري لا يزيد عن 17 عاما، والهدف هو اكمال الدراسة، وخوف الاهل من اعدامي من قبل الاسرائيليين الذين احتلوا القطاع، على غرار ما حدث اثناء احتلال عام 1956 عندما رصوا الشباب في هذه السن وما فوقها، امام الحائط واطلقوا عليهم الرصاص في حملات اعدام جماعية، خوفا من ان يتحولوا الى فدائيين، مضافا الى ذلك ان الاهل اعتقدوا انني يمكن ان اصبح مدرسا ناجحا يتعاقد مع احدى دول الخليج، واخراج الاسرة من فقرها، ولكن الوضع لم يكن كما يريدون، وهذه قصه اخرى.
العاهل الاردني الراحل اصدر مرسوما بمنح ابناء القطاع مثلي جوازات سفر “مؤقتة” لمدة عام واحد، واحدث هذا الجواز “انقلابا” في مسيرتي الحياتية، وحياة الآلاف مثلي، حيث مكنني بعد عامين من السفر الى القاهرة لاكمال دراستي الثانوية والجامعية، ولولاه لبقيت حتى هذه اللحظة سائقا لشاحنة نفايات في امانة العاصمة، او عاملا في مصنع تعليب الطماطم في ماركا (تملكه اسرة حجازي)، او فارقت الحياة نتيجة قرحة معدة “نازفة”، هي الوحيدة التي ورثتها عن الوالد الذي توفي بسببها وهو في الاربعين.
ظللت احمل هذا الجواز المؤقت واعتز به، رغم عذاب تجديده كل عام الذي يتطلب اذنا من دائرة المخابرات كل مرة، مما يعني انكماش صلاحيته الى اقل من تسعة اشهر، ثم بعد ذلك جرى تمديد صلاحيته لمدة عامين، ونحمد الله على ذلك كثيرا، وان كان شرط موافقة المخابرات ما زال مستمرا حتى هذه اللحظة.
لا نفهم مطلقا، ولا يمكن ان نتفهم، هذه الحملة الشرسة التي تطالب بسحب الجوازات من السيد الرجوب او اي مسؤول فلسطيني في كل مرة تتدهور العلاقة الاردنية الفلسطينية، حيث تتعالى الاصوات، وتتصاعد المطالبات، حتى وصلت الى بعض اعضاء البرلمان الاردني، ومن اصول ومنابت فلسطينية، فهذه مسألة سيادية وحساسة، ولا يجب مطلقا مجرد التلويح بها لاعتبارات مزاجية، او كنوع من الغضب لموقف ما لا يروق للبعض.
عارضت، وسأعارض سحب الجنسية، اي جنسية، من اي مواطن سواء في الاردن او اي مكان آخر في العالم، بما في ذلك بريطانيا التي اقيم فيها، حتى لو كان الشخص الذي ستسحب جنسيته مدان بـ “الارهاب”، فهذا حق للمواطن محكوم بالقوانين والاعراف لا يجب المس به مطلقا، لما تترتب عليه واسرته من نتائج مأساوية، ولعل وقوفي والزميل بسام بدارين ضد مسألة سحب الجنسيات والارقام الوطنية من فلسطينيين في الاردن، احد الادلة في هذا الخصوص.
ما يحيرني حقيقة، وهذا يعيدني الى الحادثة التي بدأت فيها هذا المقال، هو اسباب حمل الرئيس الفلسطيني محمود عباس جنسية اردنية ورقم وطني، اقدم البعض في الاردن على نشر صورة جواز سفره ورقمه الوطني في اطار حملة المطالبات بسحب هذه الجنسية ايضا.
الرئيس عباس من المفترض انه رئيس دولة فلسطين، ورئيس السلطة الوطنية، ورئيس اللجنة التنفيذية في المنظمة، واللجنة المركزية لحركة “فتح”، والقائد العام للقوات المسلحة الفلسطينية، فلماذا يريد جنسية اخرى غير الجنسية الفلسطينية، او جواز سفر آخر غير الجواز الفلسطيني.
الرجل اقترب من الثمانين اذا لم يكن قد تجاوزها، فلماذا يريد هذه الجنسية الاردنية، وهو الذي لا يحتاج رسميا الى تأشيرات دخول على جوازه الفلسطيني، ولا يقف في الطوابير امام السفارات، او ضباط الجوازات مثل الغالبية الساحقة من ابناء الشعب الفلسطيني.
***
جوازات السفر “القوية” مثل الاردني “ضرورية” للبحث عن فرصة عمل، او الحصول على تأشيرات دخول لدول اوروبية، والرقم الوطني ضروري لفتح “بيزنس″ أو شراء عقارات، ولا نعتقد ان الرئيس عباس في حاجة الى ذلك.
لم اسمع، او اقرأ، ان هناك رئيسا عربيا او اجنبيا، حمل، او يحمل، جواز سفر غير جواز سفر بلاده غير الرئيس عباس، فاذا كان رئيس فلسطين لا يثق بجواز سفر تصدره سلطته لمواطنيها، فمن الذي سيثق فيه، اي الجواز الفلسطيني اذا؟
رغم كل ما تقدم فانني اعارض كل الذين يطالبون بسحب جنسية الرئيس عباس الاردنية، من منطلق العلاقات الاخوية بين الشعبين الشقيقين اولا، ومعارضة مثل هذه الخطوة من حيث المبدأ، اما اذا كان الرئيس عباس يريد التنازل عنها لقطع الطريق على هؤلاء، وللحرص على جنسيته وجواز سفره الفلسطيني كبادرة اعتزاز والتماهي مع ابناء شعبه الذي يحملونه، فهذا امر آخر.