عمرو الشوبكي
طرح أستاذنا الدكتور يحيى الجمل، أمس الأول، فى ندوة نظمها معهد البحوث والدراسات السياسية حول دور النخب السياسية، وبحضور د. على الدين هلال، ود. أحمد يوسف، ود. نفين مسعد وعدد من خبراء السياسة فى مصر والمغرب ودول عربية أخرى، سؤالا منهجيا وسياسيا كبيرا حول نهاية تيار الإسلام السياسى بعد خبرة جماعة الإخوان الفاشلة فى مصر، واعتبر أن من ألطاف الله على هذا الشعب أن وصل الإخوان للسلطة فانكشفوا أمام الشعب ولفظهم، وهو ما سيعنى أنه «لن تقوم لهم قومة أخرى فى المستقبل».
والحقيقة أن رد د. على الدين هلال كان هو الاعتذار إلى د. الجمل والقول بأن هذه الظاهرة ستظل مستمرة طالما ظلت هناك بُنى اجتماعية داخل المجتمع تفرزها من تعليم متدهور إلى مشاكل فقر وأمية وتهميش.
والحقيقة أن د. هلال أجاب عن جانب من التساؤل، فى حين أن الجانب الآخر المتعلق بـ:هل وصول الإخوان للسلطة وفشلهم ثم سقوطهم المدوى كان هو الحل الناجع لأنه كشفهم أم لا؟.. إن الإجابة العلمية أن ظاهرة الإسلام السياسى لن تختفى، بما يعنى إعادة طرح السؤال: هل كان من الأفضل أن يصلوا دون قيود أو قواعد ويفشلوا، أم نضع هذه القواعد والقيود التى تحول دون وصولهم للسلطة إلا بعد التأكد من احترامهم لكل القواعد المدنية التى تنظمها؟.
والمؤكد أنه بعد وصول الإخوان للسلطة أعيد طرح موضوع الإسلام السياسى مرة أخرى على البحث، وطُرح السؤال الكبير: هل هذا التيار قابل للدمج فى الحياة السياسية.. وهل الأسباب التى تحول دون دمجه تعود أساسا إلى السياق الاجتماعى والسياسى المحيط، أم إلى بنية هذه التيارات العقائدية والتنظيمية التى تحول لأسباب هيكلية دون دمجها (خاصة الإخوان) فى العملية السياسية والديمقراطية؟
والحقيقة أن ما كتبته على مدار عشرين عاما (الدراسة الأولى فى التقرير الاستراتيجى العربى الصادر عن مركز دراسات الأهرام فى 1994 حملت عنوان الحركة الإسلامية بين صعوبة الدمج واستحالة الاستئصال.. وإسلاميون وديمقراطيون.. وأزمة الإخوان المسلمين.. ومستقبل الإخوان المسلمين) كان فى اتجاه ضرورة إحداث «دمج آمن» للتيارات الإسلامية، وعلى رأسها الإخوان، ووضعت مجموعة من الشروط لنجاح هذا «الدمج الآمن»، غابت بشكل كامل طوال المرحلة الانتقالية التى أعقبت ثورة 25 يناير، فكان وصول الإخوان للسلطة دون الالتزام بهذه الشروط يعنى فشلا مؤكدا فى تجربة الإخوان، خاصة بعد أن سارت الجماعة عكس كل مسارات النجاح فى العالم كله (راجع مقالى فى «المصرى اليوم»: «السير عكس الاتجاه»)، وتعاملت مع السلطة باعتبارها مغنما فكان السقوط مدويا.
والحقيقة أن فلسفة الدمج الآمن تقوم على الاعتراف بأن تيارات الإسلام السياسى، وفى القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، لديها مشكلة فى بنيتها الأيديولوجية، فهى ليست مجرد حزب سياسى متطرف أو ثورى يتم استيعابه فى العملية الديمقراطية كما جرى مع أحزاب يسارية وشيوعية، إنما هى جماعة تقوم على السمع والطاعة، ولديها بنية تنظيمية خاصة لا تسمح لأى شخص بأن يكون عضوا بها إلا بعد التزامه ببرامج التربية العقائدية المتدرجة داخل الجماعة، وتنقله من عضو محب أو أخ منتسب إلى عضو عامل منتظم وملتزم بالسمع والطاعة (يقدرون بما يقرب من مائة ألف عضو عامل).
والحقيقة أن قناعة عضو الإخوان المسلمين بأن مجرد انتمائه للجماعة «جهاد فى سبيل الله»، وأن الحفاظ على هذه الجماعة هو هدف وغاية فى حد ذاته، تحول بعد وصوله إلى السلطة إلى عنصر ضعف، لأنه أصبح عامل انغلاق، وعَزَله عن باقى أفراد المجتمع، وتحول فى فترة قليلة إلى عامل رئيسى فى كراهية الناس لهذا التنظيم الذى يحرص على مصلحة الجماعة لا الوطن، وتحولت الرابطة التنظيمية والتربية الدينية لدى الجماعة إلى شعور بالتمايز والتفوق على الآخرين، تقذف الجميع بطاقة كراهية وتحريض على المنافسين والخصوم وانغلاق وعزلة عن باقى المجتمع، وهو ما اتضح بشكل صادم فى خطاب الكراهية المروع بحق المجتمع ومؤسسات الدولة.
فكرة الدمج الآمن تقوم على ضرورة وجود نظام سياسى قوى وكفء، ومؤسسات دولة قوية تفرض شروطها على هذا التنظيم وتفكك بنيته الداخلية تدريجيا حتى يصبح دخوله فى العملية السياسية وفق شروط مسبقة موضوعة سلفا وليس وفق شروطه هو.
والحقيقة أن ما جرى فى مصر هو عكس هذه الرؤية تماما، فقد وصل الإخوان للسلطة بعد أن تخلى المجلس العسكرى عن دستور 71 المدنى، استجابة لابتزاز بعض القوى الثورية والمدنية، ووصل الإخوان للسلطة ووضعوا دستورا على مقاس الجماعة وفصّلوا قوانين لصالح مشاريعهم فى التمكين، واحتفظوا بالجماعة السرية التى تدير البلاد من خلف الستار، فى حين ظل الرئيس السابق مجرد منفذ لتكليفات مكتب الإرشاد، وبقى حزب الحرية والعدالة مجرد ذراع للجماعة السرية ينفذ أوامرها سمعاً وطاعةً.
والصادم أن جماعة الإخوان المسلمين حين عادت للساحة السياسية ونشرت مقارها فى محافظات مصر ومدنها، وفكرت الناس بثقافة الحزب الواحد، لم تجد سلطة تجبرها على تقنين وضعها القانونى، ولم تقم الأجهزة الرقابية بمراقبة أموالها والتفتيش المالى والإدارى على مقارها، حتى تحولت الجماعة إلى تنظيم فوق الدولة وفوق القانون، والدمج الآمن يقول إنه يجب أن تكون تحت الدولة وتحت طائلة القانون.
السؤال الكبير والباقى معنا يقول فى شقه الأول: لو نفذنا شروط الدمج الآمن بوضع الدستور أولا، ووضع قواعد قانونية صارمة تلتزم بها الجماعة.. هل كان يمكن أن تنجح التجربة ويتأخر أولا وصول الإخوان للسلطة، وحين يصلون سيضطرون إلى الالتزام بالقواعد والأسس التى تقوم عليها الدولة المدنية كما جرى فى المغرب وتركيا والتى كان يمكن للجيش أن يكون حاميا وضامنا لها؟
والحقيقة أن الإجابة غير مضمونة النتائج، لأن هناك كثيرين يرون أن الجماعة متآمرة بحكم بنيتها الداخلية، تكره الدولة والمجتمع ولا تستطيع العيش دون أن تمتلك إما خطاب الضحية وبكائيات المحن والبلاء، أو خطاب الاستعلاء والتمكين، ولا يمكنها أن تقبل أن تكون تيارا أو حزبا طبيعيا مثل باقى الأحزاب، لأنها ترى فى نفسها «جماعة ربانية» فوق الجميع.
المؤكد أن عدم اختفاء الإسلام السياسى سيعنى أن المجتمع سيظل مطالب بأن يقدم إجابات جديدة عن السؤال الكبير: هل يمكن حقيقةً إقصاؤه بشكل كامل واختفاؤه، أم أن الصيغة التى أدمج بها بعد 25 يناير لم يكن لها أدنى علاقة بشروط الدمج الآمن؟، وأن عملية إعادة دمجه لا تعنى تدليله ولا قبوله وفق شروطه، إنما وضع شروط صارمة لذلك تقوم على ضرورة احترام الدستور المدنى والدولة الوطنية والنظام الجمهورى وفصل الدعوة عن السياسى، وهو ما يعنى أن المنتج سيكون حزبا له مرجعية حضارية وثقافية إسلامية وليس جماعة الإخوان المسلمين، أى أن الماكينة (نظام الدولة) التى سيدخل فيها القطن (الإسلام السياسى) ستخرج من الناحية الأخرى قماشا (تيارا إسلاميا مدنيا ديمقراطيا) ليس له علاقة بـ85 عاما من فشل الإخوان المسلمين.