المَشاهد التي جرت في محيط مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، الأسبوع الماضي، من اعتداء على قوات الأمم المتحدة (يونيفيل)، مروراً بمحاولات قطع الطريق المؤدي إلى المطار، واستهداف المنشآت العامة والخاصة... كل ذلك طرح سؤالاً ليس فقط حول التحديات التي ستواجه العهد الجديد، إنما أيضاً حول وضعية «حزب الله» كحزب عقائدي هيمن لسنوات على القرارين السياسي والعسكري اللبناني، إضافةً أيضاً إلى وجود شبكات تضامن اجتماعي رسَّخت لحالة الأنصار الذين يحبون مشروع الحزب السياسي والعقائدي، ويحبون في الوقت نفسه خدماته الصحية، والتعليمية، والقرض الحسن، وغيرها.
ومما أسهم في اندلاع الأحداث المذكورة منع طائرة مدنية إيرانية من الهبوط في مطار بيروت، وقد قيل إنها كانت محمَّلةً بملايين الدولارات لـ«حزب الله»، وإن أميركا حذَّرت لبنان من أن كيان الاحتلال الإسرائيلي سيقصفها إذا هبطت على مدرج المطار، وهو ما طرح إشكالية مزدوجة للحزب؛ في السياسة وفي الاقتصاد.
إن الخلاف حول «حزب الله» لبنانياً وعربياً موجود، فهناك من يرى أن الكيان عدو للبنان، ويمثل تهديداً له، وأن هيمنة الحزب على القرارين السياسي والعسكري كانت من أجل دعم «مقاومة إسرائيل»، وما دام كيان الاحتلال الإسرائيلي لا يعبأ بالمجتمع الدولي وقرارات الأمم المتحدة؛ فإنه يمكن أن يستبيح لبنان في أي وقت، وأن المطلوب صيغة جديدة لـ«حزب الله» يلتزم فيها بقرار الأمم المتحدة 1701، ويحتفظ أيضاً بقدرات عسكرية كامنة للدفاع والردع فقط.
في المقابل هناك تيار واسع يرى أن الحزب ورَّط لبنان في الحرب مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وأنه مسؤول عن الدمار الذي أصاب جانباً كبيراً من لبنان، وأن ظاهرته العسكرية يجب أن تنتهي، وأن يتحول فقط إلى مشروع سياسي داخل الساحة اللبنانية المتنوعة.
والحقيقة أن هذا الخلاف وصل بصورة أكثر تعقيداً وربما عمقاً إلى أنصار الحزب، وحاضنته الشعبية، وباقي الحواضن الشعبية، وبخاصة القوى الرئيسية المناوئة له، مثل «تيار المستقبل»، و«القوات اللبنانية»، و«حزب الكتائب»، حتى أصبح هناك سجال وتنابز حول المسؤول عن الحرب، ونتائجها، وفاتورتها.
إن مشاهد الاحتضان التي حدثت في أثناء الحرب لأنصار «حزب الله» في مختلف المناطق اللبنانية اختفت حالياً لصالح حالة من الاحتقان نتيجة لترويج الحزب مقولات من نوع أن المختلفين معه هم المتخاذلون الذين غيَّروا الحكم في لبنان عبر عدوان الكيان، وبدلاً من أن يقوم بمراجعة حقيقية لأدائه وأخطائه في الداخل اللبناني حمَّل الآخرين مسؤولية اختياراته، و«تكهرُب» الوضع الداخلي بين أنصار الحزب والعهد الجديد.
معضلة العناصر الحاكمة في «حزب الله» أنهم لا يراجعون أنفسهم، وأنهم ما زالوا يرفعون نفس الشعارات القديمة (جيش وشعب ومقاومة) رغم أن مفهوم المقاومة لا يمكن أن يكون عام 2000 حين كان الكيان يحتل الجنوب اللبناني، هو نفسه بعد ربع قرن، وبعد أن تحرر الجنوب بدور رئيسي لـ«حزب الله» وباقي المكونات اللبنانية.
مطلوب من الأطراف الأخرى أن تغيِّر في خطابها تجاه أنصار «حزب الله»، وتقدِّر أكثر مأساة ضحايا عدوان كيان الاحتلال؛ بالحديث عن المستقبل، والعمل على تخفيف أحزان أهالي الضحايا، والبدء في إعادة الإعمار بصورة جادة وسريعة، والنظر إلى المستقبل.
ومع الضعف الذي أصاب العناصر العقائدية التي تقود مفاصل الحزب باغتيال المئات منهم، وكذلك بنية الحزب العسكرية، بات التحدي الأكبر في التعامل مع أنصار الحزب وحاضنته الشعبية التي باتت تشعر بأنها خرجت من المعادلة السياسية، وأنه لا يوجد إحساس بأوجاعها الحالية خصوصاً أنها هي الأكثر تضرراً من الحرب نفسها، وبعضها لا يقدر على الخروج من «مظلة حزب الله» الاجتماعية والمذهبية، ويكتفي بالنقد في الغرف المغلقة.
وهنا سيصبح السؤال: كيف يمكن استيعاب ولو جزء من هذه العناصر في سوق العمل؟ ومَن سيدفع رواتب «جيوش الموظفين» العاملين داخل مؤسسات «حزب الله» المختلفة (الصحة والتعليم والكشافة، وغيرها)؟ وهل الدولة اللبنانية ونظامها السياسي القائم على المحاصصة الطائفية (رغم كسر رئيس الحكومة الجديد نواف سلام لها جزئياً) قادران على استيعاب هذه العناصر وتأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة لها؟
معضلة «مجتمع حزب الله» والطاقات التي تدور في فلكه أن بعضها ما زال يصدِّق ما يروجه قادة الحزب حول أن الأزمة هي في تخاذل الآخرين، في حين أن الأزمة الحقيقية ليست في التخاذل، إنما في أن النظام السياسي اللبناني لم يعتد فكرة الدمج وإعادة التأهيل من خلال مؤسسات دولة راسخة، ومشاريع سياسية وأهلية عابرة للطوائف، إنما ظلَّت البنى الطائفية لكل فريق هي من تقوم أساساً بعمليات الاستيعاب وإعادة التأهيل بين أنصارها.
إذا كان المطلوب أن تقف الدولة اللبنانية والعهد الجديد ضد الأموال والتدخلات الإيرانية، فإنها مطالبة أيضاً بأن تجد بدائل معيشية لأنصار «حزب الله»، وهو خيار ليس سهل التحقيق، ولكنه ليس مستحيلاً.