مسألة الموروث

مسألة الموروث

مسألة الموروث

 العرب اليوم -

مسألة الموروث

عمار علي حسن

يعد الرضوخ الكامل للموروث أياً كانت صورته ومضمونه من الأشياء التى تعيق الخيال، وتقف حجر عثرة أمام الانطلاق إلى المستقبل. فكثير من العادات والتقاليد والطقوس والآراء الدينية الجامدة والمتكلسة تحول أحياناً، دون التغيير إلى الأفضل.

قد تكون هذه هى الخلاصة التى نخرج بها من قراءة كتاب مهم للأستاذ أحمد صلاح الدين عنوانه: «ممنوع الاقتراب.. التحرر من الموروث» وصدر مؤخراً عن «دار كتابى»، وحفل بالعديد من الآراء والمعلومات والتصورات النابعة من حضارات وثقافات وأديان عرفها البشر فى تاريخهم الطويل. وقد برع الكاتب فى توظيف قراءاته الواسعة ورحلاته فى خدمة الرسالة التى أرادها من كتابه، وبدا أشبه بالنعامة التى تلتهم أشياءً متناثرة ومتنافرة ثم تهضمها لتصير مادة سلسة مفيدة.

هذا الكتاب الممتع أثار فى ذهنى عدداً من الأمور، تبدو بالنسبة لى خلاصات وتصورات يجب طرحها على ضفافه، تدور كلها حول سؤال: لماذا يحول الاستسلام للموروث دون التغير إلى الأفضل؟ وفى ظنى أن هذا مرده إلى عدة أسباب:

1 - هذه العادات والتقاليد هى أفعال تنتمى إلى أجيال قديمة، كانت تواجه ظروفاً مغايرة، وتطرح أمامها تحديات معينة، وأسئلة نابعة من واقعها. ويؤدى التفاعل مع الظروف، والاستجابة إلى التحديات، والإجابة عن الأسئلة، إلى خلق نمط من التفكير والأقوال والأفعال قد يجمد مكانه ويرسخ، وحين يأتى زمن آخر يفرض تحديات ويطرح أسئلة ويخلق ظروفاً مغايرة، يكون ما رسخ فى القديم غير صالح للتعامل مع هذه التطورات الجديدة، فإن تمسك به الناس حرفياً بزعم أنه يشكل مخزوناً للحكمة والأخلاق والحل وسير الأجداد التى يجب الالتزام بها، يكون بلا شك عائقاً أمام تقدمهم.

2 - هذه الموروثات بمختلف أشكالها عبّرت، أو عكست فى أيام انطلاقها ثم رسوخها، عن منافع ومصالح فئات وشرائح اجتماعية، وربما أفراد متحكمين فى الأمور، ويحرص عليها الذين على شاكلتهم رغم تبدّل الأزمنة، وتباعد الشقة بين القديم والمعيش. ومثل هؤلاء يحاربون بكل طريقة إبداع الجديد، وخرق المألوف، وطرح البدائل، وهذا يقتل القدرة على التخيّل السياسى أو غيره.

3 - تجد هذه العادات والتقاليد، بكل ما تنتجه من قيم وأفكار وطقوس، حجيتها فى إطار عملية التنشئة الاجتماعية، حيث يقوم الأجداد والآباء بتعليم الأبناء والأحفاد ما ورثوه وألفوه، أو اعتادوا عليه، ويصرون على أن هذا هو الصواب، وأن صلاح الجيل الجديد يكون على قدر تمسكه بهذه «الأصول». وعملية التنشئة تلك لها أدواتها المتعددة، وبالتالى تفرض القديم كله، وتستعمله فى معاندة أى جديد أحياناً، ليتحول إلى كابح أو كابت للقدرة على إبداع ما ينفع الحاضر، ناهيك عن التخطيط للمستقبل.

4 - رغم حاجة الناس المتجددة إلى الدين، فإنهم لا يرونه إلا من خلال ما وصلهم عن الأقدمين، ليس من نصوص فحسب، إنما ممارسات وتصرفات تحملها أقاويل، كثير منها لا يمكن البرهنة عليه بشكل قاطع، لأنه فى النهاية تسجيل لتاريخ اجتماعى، ينطبق عليه ما ينطبق على الكتابة التاريخية أحادية الجانب، أو التى تُروى على لسان المتغلب، ويحملها هؤلاء المنتصرون عبر الزمن بقدر حرصهم على اندثار رواية المغلوب.

وطالما شكلت هذه المرويات التاريخية، التى هى عبارة عن تاريخ أتباع الدين وليس الدين نفسه، عائقاً أمام التجديد، ومثلت قيداً على الخيال، بدعوى أن هذا «بدعة» و«كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار». وإذا قمنا بجردة حساب لتصريحات وتصرفات أتباع الجماعات الدينية السياسية، أو تلك التى توظف الدين فى تحصيل السلطة السياسية، سنجد أن معتقداتهم فى حجية وصدق وطهر ما ملأ رؤوسهم من أقوال الأقدمين يقف حجر عثرة أمام إطلاق خيالهم السياسى، ليتبنوا خطاباً، ويبدعوا طرقاً، تلائم واقعهم المعيش، أو يتكيفوا بالفعل مع المستجد فى ترتيبات السياسة وخطابها من قبيل الدولة الوطنية، والدساتير، وسيادة الشعب وكونه مصدر السلطات، والديمقراطية، وتداول السلطة، والحريات الفردية.. إلخ.

والآثار السلبية التى يتركها الاستسلام للموروث على الخيال الإبداعى، لا تعنى بأى حال من الأحوال، إهمال أمرين، الأول أن القديم من عادات وطقوس وأقوال السالفين والسابقين لا يموت تماماً، وليس كله شر أو قيد، فبعض ما فيه مفيد، شرط ألا يتم التعامل معه بوصفه مقدساً أو معياراً للفضيلة، إنما قابل للنقد والغربلة، بما يقود إلى الاستفادة من إيجابياته ولفظ سلبياته. والثانى هو أن رفض قيد الموروث لا يعنى أبداً إهمال دراسة التاريخ واستقراء وقائعه وأحداثه، لتعيننا على فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.

arabstoday

GMT 05:18 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

أمة الرواد والمشردين

GMT 05:16 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

يوليو جمال عبد الناصر وأنور السادات

GMT 05:15 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

المسلمون والإسلاميون في الغرب

GMT 05:13 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

في مدح الكرم

GMT 05:12 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

إنها أزمة مصطلحات!

GMT 05:10 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

أميركا واختبار «الديمقراطية الجندرية»

GMT 04:33 2024 السبت ,27 تموز / يوليو

لبنان بين حربي 2006 و2024

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مسألة الموروث مسألة الموروث



ميريام فارس بإطلالات شاطئية عصرية وأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 16:07 2024 الجمعة ,26 تموز / يوليو

غارة إسرائيلية على أطراف بلدة مركبا فى لبنان

GMT 16:01 2024 الجمعة ,26 تموز / يوليو

ارتفاع التضخم في أمريكا خلال يونيو الماضي

GMT 13:19 2024 الجمعة ,26 تموز / يوليو

محمد ممدوح يكشف عن مهنته قبل التمثيل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab