بقلم - عمار علي حسن
فى إقرار بحقها فى انفعالها بالقضية الفلسطينية فى روايتها «الطنطورية»، قدم الكاتب الكبير الأستاذ محمود الوردانى اعتذارًا إلى الراحلة رضوى عاشور، الروائية القديرة وأستاذة الأدب. كان الوردانى حين قرأ هذه الرواية عاب عليها النبرة الزاعقة المباشرة فى الطرح والسرد والتصوير، ورأى أن هذا يقنص من فنيتها.
أعادنى هذا الاعتذار إلى مقولة يوسف إدريس الذهبية: «حين يكون عقل أمتى فى خطر فلا تسألنى عن شكل الكتابة». فالكاتب يكون أحيانًا فى حاجة إلى أن يصرخ دون مواربة، ربما فى عمل أدبى واحد، والعيب فيمن لم يقرأ له أعمالًا أخرى فيعرف أنه قصد برواية أو قصة ما أن تكون هكذا، لأن لديه هدفًا يريد أن يصل إلى من قصدهم، هو عنده أهم من أن يأتى من لم يقرأ له، أو يتربص به، أو يحقد عليه، ليتوهم أن عمله هذا يعوزه الفن، بينما الفن طافح فى كل أعماله الأخرى.
الناقد يجب أن يأخذ فى الاعتبار أعمال الكاتب الأخرى، ووقتها سيعرف أن عملًا ما انعقدت الإرادة على أن يكون هكذا، طلقة كاشفة فاضحة، أو كتابة بالسكين. ولأن محمود الوردانى كاتب مبدع، وإنسان واسع العقل والصدر، لم يكن بالطبع يتربص برضوى عاشور أو يحقد عليها، وجد أن اعتذاره لها واجب بعد كل هذه السنين، لاسيما حين أدرك لماذا كتبت «الطنطورية» على هذا النحو، وهو يتابع ما يجرى الآن فى قطاع غزة.
هذا الاعتذار جعلنى أمد الخيط على استقامته لأرى أننا فى حاجة ماسة إلى العقل النقدى، فبه وحده يمكن لنا أن نتقدم على درب الإبداع، لأن المسايرة والمجاراة والمجاملة والمدح الأجوف والمداهنة والملاينة وصولًا إلى النفاق ليس بوسعها جميعًا أن تُبصّرنا بثقوب يجب أن نسدها، وعيوب من الضرورى تلافيها، وإبطاء لابد من تسريعه، واعوجاج علينا دفعه إلى الاستقامة.
لكن النقد له شروط، يجب أن يلتزم بها من يقوم به، قبل أن يطالب من ينتقده بأن يُنصت إليه، ويُمعن النظر فيما أبداه من ملاحظات، ويتعهد بأن يستفيد منها فى قابل أعماله أو أقواله. وهذه الشروط لا يضعها الناقد نفسه، وإن كان من حقه أن يضيف إليها ويبدع فيها فيصير نقده إبداعًا جديدًا، إنما هى تلك التى توافق عليها النقاد والمفكرون، وتفهمها الكتاب والمبدعون، وحوتها تصورات ورؤى ونظريات واتجاهات موزعة بين النقد الفنى للنص من داخله وأى عوامل خارجية تؤثر فيه، يدرسها علم اجتماع الأدب وعلم اجتماع المعرفة وغيرهما من العلوم التى تتعلق بالنظر فى سياق النص.
وهنا علينا أن نفرق فى النقد بين «المعقب» و«المتعقب» و«المعاقب»، فالأول يدخل إلى «النص» أو «المكتوب» الذى يريد التعقيب عليه بتجرد، ملزمًا نفسه بإنصاف يليق بقاضٍ عادل، ومنصتًا طوال الوقت إلى صوت ضميره، ثم يُعمل فيه ما درسه من أدوات النقد، ويخلص فى هذا على قدر الاستطاعة، مدفوعًا برغبة فى الإجادة والإضافة فى ظل الإيمان بأن عين الناقد البصيرة من واجبها أن تعمل طيلة الوقت على دفع عربة التفكير والتعبير والتدبير إلى الأمام.
أما المتعقب فهو الذى يدخل إلى النص راغبًا منذ البداية فى أن يحصى عثرات الكاتب، ويعدد له مواضع الخلل والزلل، ويعتقد أن هذه هى وظيفته الأساسية، دون أن ينظر فى الإيجابيات التى ينطوى عليها، ويهمل ما عليه من واجب فى النظر إلى النص بعمومه، ليعرف مواطن جماله الفنى، ومدى إحكام بنيته، ومكانته بين النصوص الأخرى، وقدر ما فيه من تجديد ضمن المنجز الإبداعى الراهن.
أما المعاقب فهو شخص يستعمل أدوات النقد فى الهدم، داخلًا إلى أى مادة يريد أن يدلى برأيه فيها وهو يحمل غلًا لصاحبها، ورغبة فى إيذائه، حسدًا من عند نفسه، أو لحساب آخر ينافسه، أو لاعتلال طبيعى فيه، يجعله يتوهم أن بيده أن يُعلى من قدر هذا، ويحط من قدر ذلك. وبقدر ما يزيد الصنف الأول فى حياتنا الأدبية والفكرية بقدر ما تولد فرصة للتجويد والتطوير، ليس فى الكتابة وحدها إنما فى أى عمل فى حياتنا مهما كان ضئيلًا.
على الجانب الآخر، من الضرورى أن يتسم كل من ينتج عملًا إبداعيًا، معنويًا كان أو ماديًا، برحابة صدر، وسعة أفق، حيال النقد، فلا يغضب إن وضع أحدهم عينه على نقص، ولا يشمئز إن قيل له عن تقصير، وليجعل نفسه مأخوذًا دومًا بحكمة تقول: «طوبى لمن أهدى إلىَّ عيوبى». فبعض النقاد يفزعهم غضب الكتاب إن قالوا فيهم شيئًا لا يُعجبهم، فيجنحون إلى المسايرة، وكأنهم ينحنون لعاصفة ما كان يجب أن تهب أبدًا، لو فهم كل طرف حاجته إلى الآخر.
ولا يعنى هذا أن الناقد عليه فى التزامه بالموضوعية والنزاهة أن يكون فظًا غليظ اللسان والقلم، فرُبَّ كلمة أحد من سيف، ولفظ أقسى من ضرب البدن، فالنجاعة والحصافة أن يُقال كل كلام حتى لو كان فى خصام مع النص بطريقة لا تجرح ولا تقتل. وهذه مسألة يحتاج فيها الناقد إلى كظم غيظه إن اغتاظ، وكبح جماح نفسه إن هاجت، وإن كان الأمر لا يحتاج منه إلى غيظ أو هياج، إنما انضباط فى القول والكتابة، وإطلاق كل قدرة على النقد المبدع.