مولد العذراء مريم

مولد العذراء مريم

مولد العذراء مريم

 العرب اليوم -

مولد العذراء مريم

عمار علي حسن

تعلو الترانيم بألحان عذبة شجية، وتختلط بالمدائح الدينية، التى تصل واهنة إلى آذان الغلابة الجالسين بالقرب من حواف الجبل، يلتهمون من لحم الذبائح، ومرقها السابح فى صحون من الألومنيوم والبلاستيك الرخيص، وأرزهم يتصاعد منه بخار، ليملأ أنوف الآكلين، الذين يسترخون فى تلذذهم وهم يراقبون من يصعدون على مهل السلم الحجرى الطويل المؤدى إلى الكنيسة المحفورة فى قلب جبل الكف. مائة وست وستون درجة من صخر صوان، أبلتها أقدام حافية وأحذية ذات نعال خشنة على مدار قرون طويلة، لأناس إما أن ألقت بهم المراكب على الشاطئ الشرقى للنيل، أو أتوا إلى هنا سيراً على الأقدام، مسلمون ومسيحيون، ليوفوا نذراً لـ«أم المخلص»، ويبقوا إلى جوارها أسبوعاً كاملاً، حتى «عيد الصعود»، متجولين فى شوارع تحمل أسماء القديسين، أو نائمين إلى جانب الكنيسة القديمة.
هذا هو أول مشهد أتذكره حين كنت ولداً صغيراً معلقاً فى يد أبيه، وهو ذاهب إلى الليلة الكبيرة من «مولد العذراء» بجبل الطير فى المنيا، يدق الأرض بعصاه الغليظة، بعد أن ارتدى أفضل ثياب لديه. عند أول المولد نختلط بأناس يأتون من كل مكان، وفى أيديهم نذورهم، ذبائح وحلى ونقود، يرمون بعضها فى ماجور الفخار الذى استخدمته العائلة المقدسة فى عجن الدقيق لصنع الخبز، آملين فى شفاء العلل وزيادة الرزق وذهاب الكدر. كانوا يصدحون بالغناء:
«يا عتبة العدرا يا محلا عتبها
افتحوا للزايرة تنصر ولدها
يا عتبة العدرا يا محلا هواها».
كنت أنفلت من يد أبى، وأجرى لأتابع القساوسة المنهمكين فى تعميد الأطفال، الذكر بعد أربعين يوماً من ولادته، والأنثى بعد ثمانين. يجردونهم من ملابسهم، ويغطسونهم فى مياه مقدسة، قرأوا عليها تعاويذ وترانيم، وصبوا فيها زيتاً مباركاً. وخلفهم تقف الأمهات رافعات أيديهن ليقسمن على أنهن سيربين الصغار على تعاليم المسيح.
وأحياناً كنت أقف عند نسوة عاقرات يهرولن نحو «الشق» الصخرى الذى اختبأت فيه العائلة المقدسة، ويدخلن فيه بكل أجسادهن، ويظللن ماكثات وقتاً كافياً، وحين يخرجن يمسحن براحات الأيادى على الصور والهيكل والمعمودية الأثرية، حتى تحل البركة بأرحامهن، وينجبن البنين والبنات. وكان يحلو لى أن أقف مشدوهاً أمام فتى نحيل، يهز جسده فى فرح، انتظاراً لزبائنه من الأطفال والكبار، رجالاً ونساء، الذين يقبلون عليه لرسم الصلبان وصور القديسين وأسمائهم بحروف عربية أو أجنبية، على سواعدهم. يرش من زجاجة بنجاً موضعياً، ويلتقط من جانبه جهازاً يرش على الجلد حبراً مخلوطاً بدواء خفيف ومضاد حيوى يمنع التقرح، يمد أذنه ليتلفط من فم الزبون ما يريده، ثم يبدأ فوراً فى تنفيذ طلبه.
بعدها أمر بصفوف من باعة الحمص والفول السودانى والخروب والبلح والحلوى، وألعاب الأطفال مختلفة الأشكال والألوان، شخاليل وطراطير ومزامير وفوانيس، أمعن النظر فيهم وهم مقبلون على البيع والشراء بنفوس راضية، وأرى الصغار الذى يجرون نحو المراجيح وألعاب البخت والأراجوز وصندوق الدنيا والنيشان ولعبة المدفع، لكننى أترك كل هذا وأجرى نحو المكان الذى اعتدت عليه، هناك عند الكنيسة.
أقف على طرف حشد هائل من الناس، وأشاركهم فى اهتمام وهم يتابعون قساً يغرس عينيه فى النجوم، ويقول: انظروا إلى السماء جيداً، إنها هناك، ترسل إليكم المحبة والسلام. فترتفع الهامات فى الأفق البعيد، ويمد البعض أياديهم إلى أعلى، وهم يرتلون مزامير وأدعية، وبعضهم يصيح فى فرح.
يرفع القس إصبعه فى خط مستقيم، ويشير إلى جوف الفضاء ويقول: ها هى المطوبة، تظهر لنا نوراً أبيض، سرعان ما يصير حمامة بيضاء، تطير فوق الكنيسة، ثم يتلو ترانيم فى خشوع.
بعض من يحفظون هذه الترانيم أو طرفاً منها يرددون معه، وهناك من يخطفون آخر الحروف ويلوون ألسنتهم لتصدر نغماً متماشياً مع الكلمات، لكن جميعهم متحدون فى النظر إلى أعلى، تماماً باتجاه إصبع القس، الذى كان قد فرد راحة يده فأصبح ساعده كله وكفه فى اتجاه السماء الصافية.
يدعك البعض عيونهم، ويشخصونها من جديد، ثم يهزون رؤوسهم، بينما يقتحم آذانهم قول القس لهم: لن يراها إلا الأتقياء والمخلصون منكم. فيخفضون رؤوسهم متحسرين، ويتفرس بعضهم فى ملامح البعض، وعيونهم تسكب لوماً، وبعضهم يتنهد متوجعاً، ويكتم كل شىء فى صدره صامتاً، وهناك من يتمتم بحروف لا يسمعها غيره.

 

 

arabstoday

GMT 07:17 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 07:13 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب اعتزاز ومذكرة مشينة

GMT 07:11 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

العدالة... ثم ماذا؟

GMT 07:08 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

GMT 07:05 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شاورما سورية سياسية مصرية

GMT 07:03 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 07:00 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

استقرار لبنان... رهينة التفاوض بالنار

GMT 06:58 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الصراع الطبقي في بريطانيا

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مولد العذراء مريم مولد العذراء مريم



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 07:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 11:10 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

مسيرات إسرائيلية تستهدف مستشفى كمال عدوان 7 مرات في غزة

GMT 17:28 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab