صراع الهويات فى مصر 23

صراع الهويات فى مصر (2-3)

صراع الهويات فى مصر (2-3)

 العرب اليوم -

صراع الهويات فى مصر 23

عمار علي حسن

لكل هذا فإن مصر بدت طيلة تاريخها أمة قائمة بذاتها. نشأت على التوالى طبقات حضارية يركب بعضها بعضاً، ومن ثم فإن أى محاولة لتفكيك هويتها أو اختزالها فى صنف أو لون واحد محكوم عليها بالفشل الذريع، فالموروث الشعبى المصرى يتمدد فيه كل هذا الزمن لتبقى قيم ومعان وألفاظ وطقوس مستمرة لا تهتز ولا تذهب. فعلى سبيل المثال فإن الطقوس التى تؤدى الآن فى مقام القطب الصوفى أبوالحجاج الأقصرى هى التى كانت تؤدى فى المكان ذاته فى مصر المسيحية، ومن قبلها فى معبد آمون فى مصر الفرعونية، إذ تغيرت الكلمات والمعانى والمقاصد واستمرت الطقوس. ولهذا ليس من قبيل المبالغة أن يقول البعض إن مصر أعطت المسيحية والإسلام من روحها.
وحين اندلعت ثورة يناير عبّر ميدان التحرير عن كل هذا المعانى، وتعجب كثيرون من الجينات الحضارية التى قفزت فجأة لتجعل المصريين فى لحظة تاريخية يتسامون فوق الاحتقانات الطائفية والطبقية والسياسية التى عانوا منها عقوداً، لكن ما إن انتهت الموجة الأولى بإجبار حسنى مبارك على التنحى حتى بدأ صراع الهويات، الذى هو السبب الكامن أو المضمر وراء الدم الذى سال، ولا يزال حتى الآن، بينما السبب الواضح الفاضح هو الصراع على السلطة من ناحية والحفاظ على الدولة من ناحية أخرى، وإن كان البعض يعتبر أن حيازة السلطة هى الوسيلة الأقصر والأقرب والأكثر أمناً للدفاع عن الهوية كما يراها، أو يتوهمها.
لكن الحالة المصرية هنا ليست استثناء، فالصراعات حول «الهوية» بشتى أشكالها تُعد هى الأكثر إراقة للدماء فى تاريخ البشرية المديد، فالإنسان الذى طالما تمزق بين «أنا» و«هو» أو «نحن» و«هم» كان أكثر ضراوة حين زاحم وخاصم وقاتل من يختلفون معه فى الدين والسلالة والطبقة والثقافة. وتحت هذه البنى الاجتماعية الكبرى تناحر المتمايزون فى الفروع من بين المتمركزين حول القبيلة والطائفة والمذهب واللهجة. حتى الإمبراطوريات الكبرى لم تقلع عن توظيف الهويات فى تبرير مشروعاتها الاستعمارية، حين صنعت منها أيديولوجيات سهّلت لها عملية الحشد والتعبئة.
وأغلب الأفعال العنيفة محالة إلى التعصب الأعمى للهويات تارة، وإلى الهويات التى تنطوى على أفكار تدعو إلى كراهية الآخر ونبذه طوراً.
وعموماً فإن الإنسان لا يعطى مختلف هوياته الدرجة نفسها من الأهمية أو الأولوية، لكنه يغلّب بعضها على بعض، وقد تنتظم لديه فى سلم انتماء يتدرج من الأقصى إلى الأدنى، وهنا قد تجد مجموعة بشرية نفسها متفقة على إعطاء وزن أكبر لهوية معينة عما عداها، ويورثها هذا شعوراً قوياً بالتمايز عن الآخرين.
وهذه المجموعة قد تصغر لتُختصر فى جماعة أو عائلة أو عشيرة أو قبيلة أو طائفة أو أهل حرفة أو أتباع دين أو لغة، وقد تكبر عند البعض لتصبح الدولة أو الإقليم، وهنا يمكنها أن تأخذ مسميات عدة. فعلى سبيل المثال، هناك مصطلحات مختلفة للتعبير عن هوية المنتمين إلى منطقتنا من العالم مثل: «الرابطة الشرقية» و«الجامعة الإسلامية» و«القومية العربية» و«الرابطة الوطنية الإقليمية» و«العالم العربى» و«الوطن العربى»، وغير ذلك من المفاهيم التى ثار حولها جدل فكرى عارم منذ مطلع النصف الثانى من القرن التاسع عشر وحتى اللحظة الراهنة.
ومن يمعن النظر فى الملابسات والسياقات المرتبطة بالأعمال العنيفة التى تمت بسبب تنازع الهويات، يجد أن وجاهة ورسوخ وتأثير التصورات التى تبرر العنف تختلف باختلاف المدى أو القدر الذى يتوفر فيه للساخطين الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة. ويتولد هذا الشعور ويتعزز عبر مجموعة من المعانى والرموز التى تجعل الناس واعين بحالات السخط المشتركة بينهم، ومدركين فى الوقت ذاته حجم وجود الجماعة أو المنظمة التى تضمهم، وواثقين من قدرتهم إن توحدوا على أن ينتفضوا ضد من يضطهدهم أو يقهرهم. ومثل هذا الوضع دفع ديفيد شوارتز إلى القول: «الإغراءات الثورية تكون ناجحة بمقدار ما توفّر الشعور بالانتماء إلى جماعة تاريخية معتدة بنفسها، حتى لو كانت من نتاج الخيال». والصراع حول الهوية آفة عرفتها البشرية طيلة تاريخها المديد، بدءاً من التناحرات العشائرية والقبلية وحتى صراع الدول والإمبراطوريات والحضارات. وصراع الحضارات هو المشهد الأخير فى استخدام الهوية كرأس حربة ضد الآخر. وهذه حالة عامة لا سبيل لنكرانها.

arabstoday

GMT 10:02 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نقل عدوى لبنان إلى العراق

GMT 10:00 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

تأخرنا كثيرا دولة الرئيس!

GMT 09:59 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نواب هل يجرؤون على حجب الثقة ؟

GMT 09:56 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

«كاستنج» والتنقيب عن بئر نفط المواهب

GMT 07:10 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

«الصراع من أجل سوريا»

GMT 07:09 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

دمشق وطهران والحرب الجديدة

GMT 07:08 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

غزة. غزة... بقلم «جي بي تي»!.. بقلم «جي بي تي»!

GMT 07:06 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

... أن تكون مع لا أحد!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صراع الهويات فى مصر 23 صراع الهويات فى مصر 23



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:48 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
 العرب اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 09:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
 العرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 08:36 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

ياسمين رئيس في لفتة إنسانية تجاه طفلة من معجباتها

GMT 10:02 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نقل عدوى لبنان إلى العراق

GMT 06:33 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

ثلاث دوائر

GMT 08:28 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

منة شلبي توجّه رسالة شكر لجمهور السعودية بعد نجاح مسرحيتها

GMT 06:46 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

العلاقات التركية السورية تاريخ معقد

GMT 07:12 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

ماذا وراء موقف واشنطن في حلب؟

GMT 07:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

اليمامة تحلّق بجناحي المترو في الرياض

GMT 23:47 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

فيفا يعين الأميركية جيل إليس رئيس تنفيذى لكرة القدم

GMT 01:25 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

وفاة 143 شخصًا بمرض غامض في الكونغو خلال أسبوعين

GMT 10:21 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

"أرامكو" السعودية توقع اتفاقية مع شركتين لاستخلاص الكربون
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab