الكويت ـ وكالات
لم تتأسس الخلافة الإسلامية بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) بناء على نص ديني يحدد طريقة انتقال السلطة، أو يبين اسم من سيخلف الرسول، ما يعني أن هذا الأمر كان متروكا للأمة تختار الطريقة المناسبة التي تحقق مبدأ الشورى، وتقيم العدل ضمن السياق الإسلامي.
ويؤكد د. فؤاد عبدالمطلب ـ مترجم كتاب "الغرب والإسلام" في مقدمته الضافية التي وقعت في 40 صفحة ـ أن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار حول موضوع تولي السلطة أو الخلافة معبرا عن هذا الواقع حين تركز الحوار حول تحديد الشخص الذي تتحقق فيه الصفات والكفاءات التي تجعله حاكما مقبولا ومطاعا عند المسلمين.
ويرى عبدالمطلب في تقديمه للكتاب الصادر عن سلسلة "عالم المعرفة" بالكويت لصاحبه أنتوني بلاك، أن نظرة تحليلية إلى حوار السقيفة الذي يعتمد المحاججة والإقناع من شأنها أن تظهر المنطلق الإنساني -لا الديني- في حل مسألة انتقال السلطة وتأسيس الخلافة. وقد برزت قضية انتقال السلطة بوصفها عاملا مهما من عوامل الحفاظ على استقرار المجتمع وتماسكه والاستمرار في بناء الدولة الجديدة والحفاظ عليها أثناء الخلافة الإسلامية الراشدة.
ويؤكد المترجم أن الخلفاء الراشدين حاولوا وضع رؤاهم عن الحكم قيد التطبيق العملي بوحي من القرآن والسنة، ولم تكن رؤية أبي بكر الصديق في القيادة محفوظة في أقواله البليغة فحسب ـ مثل "فإن احسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني" و"أطيعوني ما أطعت الله فيكم"ـ ولكنها تبين أيضا أن أبا بكر لم يكن يسعى إلى منصب إن لم يكن يعارض ذلك، لكنه يبرز بوصفه المرشح الأفضل القادر على تجاوز المنافسات الشخصية والعائلية والعشائرية التي أخذت بالظهور، ولو بصور جانبية في المجتمع الإسلامي الفتي. وسيظهر بعد ذلك المثال القيادي لأبي بكر في تقديمه نموذجا للتواضع والتوافق والصلاح والتركيز على أعمال البر والإحسان والخير العام.
ويوضح عبدالمطلب أن هذه القيم ستجسد مثالا أعلى مستمرا عن الحكم في العالم الإسلامي، وهو مثال يناقض عموما الغرائز الإنسانية، كما أنه سيتواصل كونه عامل جذب للموالين للإسلام السياسي في العصر الحديث.
وتتواصل حلقات الحكم الإسلامي لنصل إلى حكم هارون الرشيد الذي يرى المترجم أنه أفضل نموذج للحاكم المسلم التقدمي، وفيه يضع الرشيد أساس العصر الذهبي في بغداد، ويصل هذا العصر إلى ذروته أيام حكم ابنه المأمون، ويظهر نموذج من الحكم المتحرر بصورة متزامنة تقريبا في الأندلس يعود إلى أيام المؤسس الأموي عبدالرحمن الثالث في قرطبة والحاكم بأمر الله في القاهرة.
لقد هيأت أحوال مادية وثقافية الأرضية التي قدر للدولة الإسلامية أن تنشأ عليها، فقد قامت هذه الأحوال على حدث تاريخي هو الفتح العربي المبكر في العصر الأموي، ففي أقل من ثلاثين عاما بعد وفاة النبي محمد (11 هـ: 633م) كانت الجيوش الإسلامية قد فتحت من جنوب غرب آسيا وشمال شرق أفريقيا البلدان التي كان الإسكندر المقدوني قد احتلها قبل ألف عام.
وتتجلى أهمية الفتح الإسلامي التاريخية في توحيد مصر وبلاد الشام والعراق مع فارس والهند سياسيا وإداريا وكسر الحواجز الاقتصادية والثقافية الكبيرة التي فصلت بين بلدان العالم المتمدن لألف عام مضت قبل ظهور الإسلام.
ومن نتائج الفتوحات إدخال صناعة الورق إلى العالم الإسلامي على يد أسرى صينيين في الحرب التي حدثت في العام 751 والتي شكلت العامل الأكبر تأثيرا في نشر المعرفة عموما، وقد حل الورق محل المواد الكتابية السابقة، وفي بداية الفترة العباسية تبنته وفرضته النخبة الحاكمة، ثم طورت أنواعا مختلفة من الورق.
وفيما يتعلق بالاتصال الثقافي أيام العهد الأموي أوضح المترجم أن الاختلاط لم يجر داخل البلاد الإسلامية فقط، بل تعداه إلى الاتصال بالممالك المجاورة والبعيدة، حيث كانت السفارات مستمرة بين دمشق والقسطنطينية مثلا، على الرغم من الحروب التي كانت مستمرة بينهما، ومحاولة الاستيلاء على القسطنطينية طيلة قرون عدة حتى تم للمسلمين ذلك على أيدي العثمانيين عام 1453.
ويضرب أمثلة حية بالاتصال والتمازج الثقافي بين الشعوب الإسلامية والشعوب الأخرى وخاصة الصينية، فاختلاف الدين بين المسلمين والآخرين سيدفع المسلمين بالضرورة إلى الحوار مع أهل الملل الأخرى ليطلعوا على آدابهم وعلومهم ومبادئهم الدينية، لذلك كان الحوار حول الأديان نشطا في ذلك العهد، ومن ذلك كتاب يوحنا الدمشقي "محاورة مع مسلم"، وما تم كشفه من مخطوطات سريانية فيها جانب كبير من نقاش المسلمين لعقائد المسيحيين ورد هؤلاء الأخيرين على المسلمين.
ومن هنا يصدق قول ادوارد سعيد "إن جميع الثقافات متشابكة الواحدة مع الأخرى، ولا وجود لثقافة متفردة ومصفاة، جميعها هجينة ومتغايرة الخواص ومتباعدة إلى حد بعيد ومجزأة".
وبعد مقدمته الضافية والطويلة نوعا ما، رأى المترجم د. فؤاد عبدالمطلب أن ثمة شعورا بأن القارئ المثقف المعاصر ينظر إلى الكتب والدراسات الصادرة عن الإسلام بشيء من القلق أو الضجر إن لم يكن الشك، ويعود ذلك في الأغلب الأعم إلى أن مثل هذه الأعمال البحثية لا تخلو من انحياز أو تحامل من المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها المؤلف أو الدارس إذا كان مسلما، أو من عقيدته الدينية إن لم يكن كذلك.
ولهذا يضع المترجم انجازات انتوني بلاك الأستاذ الفخري لتاريخ الفكر السياسي في جامعة دندي في اسكتلندا – بريطانيا، بين إيدي القراء قبل الإقدام على قراءة فصول كتابه "الغرب والإسلام .. الدين والفكر السياسي في التاريخ العالمي"، فهو واحد من باحثين نخبة يحاولون الإحاطة عبر نظرة موسعة بالاتجاهات المتعددة للنظرية السياسية الأوروبية والإسلامية معا في آن واحد.
ويعد كتابه "الغرب والإسلام" بفصوله الثمانية مقارنة تاريخية في الفكر السياسي إذ يتفحص المقاربات الغربية والإسلامية لعلم السياسة والقواسم المشتركة بينها بالإضافة إلى مواطن التفرع والاختلاف، ويدرس الكتاب كيف تطورت الأنساق الفكرية القديمة والقروسطية المختلفة، وكيف نظر إلى الملكية المقدسة وشرعية الدولة ودور الشعب في كل ثقافة.
ويركز بلاك على الفكر السياسي في الزمن الذي يحدده منذ بروز الإسلام وصولا إلى أيام الإصلاح الأوروبي شارحا أنواعه منذئذ وحتى أيامنا هذه. ويناقش أنه حتى منتصف القرن الحادي عشر الميلادي كان لدى الحضارات الثلاث البيزنطية والإسلامية والأوروبية كثير من الأمور السياسية والدينية المشتركة وأكثر مما هو معتقد عادة.
ويبين الباحث البريطاني أن الأمر الذي جعل الغرب مختلفا هو الثورة البابوية التي حدثت في نهاية القرن الحادي عشر والنهضة الأوروبية في القرن الثاني عشر، والعلمنة المتدرجة التي أتت بعد ذلك، بينما كان الإسلام بعد مرحلة تفتحه ونضجه الأولى يقوم بتفسير وحيه على نحو ضيق تدريجيا.
ويرى انتوني بلاك أنه بغض النظر عن استثناءات رئيسة قليلة مثل ابن رشد وابن خلدون فإن الفلسفة الإسلامية السياسية اتسمت بالتدهور بعد القرن الحادي عشر تقريبا. وأن الفكر السياسي الأوروبي أو الغربي تطور ببطء لكن التطور كان مستمرا.
وبصفة عامة فإن الكتاب -عبر صفحاته الـ280- يلقي الضوء على الغاية التي قصدها كل من الغرب والإسلام من وراء تطوير نظام حكم خاص بكل منهما، ولماذا كانا مختلفين في ذلك.
أرسل تعليقك