الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات
آخر تحديث GMT17:16:53
 العرب اليوم -

العالم يتخلّى عن روحه في لحظات باريسيّة

الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات

 العرب اليوم -

 العرب اليوم - الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات

الكاتب والأديب اللبناني عيسى مخلوف
بقلم : عيسى مخلوف

رسالة إلى عبّاس بيضون

دعني أتذكّر، الآن، لحظتين اثنتين من لحظاتنا الباريسيّة: اللحظة الأولى حديثة العهد. كانت آخر مرّة جئتَ فيها إلى هنا وذهبنا لحضور المعرض المخصّص لأوسكار وايلد في متحف "القصر الصغير" حيث طالعتنا المخطوطات والكتب والصُّوَر الفوتوغرافية والأعمال الفنّية ومن بينها لوحة زيتيّة كبيرة تظهر فيها الممثلة الإنكليزية ليلّي لانغتري، وقد أنجزها، في العام ١٨٧٨، الفنان إدوارد بوينتر. عُرضَت، الى يمين اللوحة، كلمات أوسكار وايلد المهداة إليها.

لستُ أدري فيما كنتَ تفكّر وأنتَ تراقب اللوحة. أمّا أنا فتخيّلتُ نظرات تلك المرأة حين كانت تتكلّم أو تحزن أو تبتسم، وحين تلتفت إلى المرآة لترى الأيّام كيف تمرّ مسرعةً بين تقاسيم وجهها، وخصوصًا بين العينَين الملتمعتَين المندهشتَين.

عندما هممتُ بالانتقال إلى لوحة أخرى، بقيتَ أنتَ مسمَّرًا في مكانك، لا تشيح نظرك عن "مسز" لانغتري ولا تشبع من رؤيتها. فاقتربتُ منكَ ووجدتكَ تتمتم هامسًا: "ما أجملها". وتساءلتُ أمامكَ، يومها، السؤال الذي لا جدوى منه: كيف لهذا الجمال أن يكون تحت التراب؟ عندئذ، سمعتك تقول، من دون أن تنظر إليّ، بل وأنتَ تحدّق في الأرض كأنّك تبحث عن شيء أضَعتَه: "هذا ما أفكّر فيه كلّ يوم".

ماذا كنتَ تقصد بالتحديد؟ وهل من حاجة إلى السؤال عن موضوع تعجز اللغات عن صَوغه. سمِّه، إذا شئت، جرح الولادة السّرّيّ، الجرح الذي لا يندمل، أو اختَر له أيّ مجاز آخر. إنّه سرّنا جميعًا. ومع ذلك، يحاول كلّ منّا أن يخفيه عن الأعين، كما لو أنّه سرّه وحده. إنّه الموت، الشيء الأكيد الوحيد، لدرجة أظنّ معها أنّ الحياةَ نفسها أحد فروعه، وأحد أشكاله وتنويعاته. نحن هنا، الآن، كمجموعة من الغيوم. فجأةً نوجد، وفجأةً نختفي، كأنّنا لم نكن، فيبدو وجودنا كلّه ضَربًا من السِّحر.

خرجنا من المتحف في اتّجاه المقهى المجاور، حيث نلتقي في العادة، وأكملنا حديثنا. أخبرتني عن صمت بسّام حجّار وعن حالة الأرق التي لازمته في الأشهر الأخيرة قبل وفاته. وأخبرتكَ عن لقائي الأخير به في مدينة "لوديف".

كلّما نلتقي، يكون بسّام حاضرًا بيننا.

اللحظة الثانية التي أتذكّرها كانت منذ سنوات في أمسية شعريّة جمعَتنا في "المركز الثقافي المصري" مع أحمد عبد المعطي حجازي وحسن طلب. ذلك اليوم، نظرتَ إلى الجموع نظرتك المعهودة حين تبدأ بالكلام كأنك تقرأه على لوح أسود. تتكلّم وتستطرد. تتدافع الكلمات أمامك كأمواج متلاحقة، تذوب الواحدة منها في الأخرى. كان نظركَ يذهب أحيانًا أبعد من الحاضرين، نحو حديقة "اللوكسمبور" الماثلة وراء مربّعات الزجاج. وكنتَ كأنكَ تروي للشجر والبشر على السواء ما حلَّ بالشعر. الشعر الذي يخرج الآن من مخبئه، لا يعرف أحدًا ولا أحد يعرفه. وسرعان ما يرتفع صوتك، وأنتَ ترثي هذا الكائن الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين سائر الكائنات. كنتَ ترثيه بلا حسرة ولا نحيب، وترى العالم حوله كيف يتحلّل ويتخلّى عن روحه.

كنتَ تودّع الشعر الذي يناديه سوفوكليس من وراء الأزمنة البعيدة قائلًا: "تكلَّم يا طفل الأمل المُذَهَّب، يا الصَّوت الأبديّ".

وكنتُ أخالك، يا صديقي، تَنعى العالم فيما تَنعى الشعر. العالم الذي يمسكه بقرنَيه أباطرة السلطة والعنف والمال. العالم المُسرع إلى حتفه كأنّه ذاهب لمُلاقاة قدره المحتوم.

قد يهمك ايضًا

الأحلام الشرقية للكاتب اللبناني عيسى مخلوف في طبعته الثانية

40 لوحة زيتية في معرض الفنان فريد فاضل بالأوبرا السبت

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات



جورجينا رودريغيز تتألق بالأسود في حفل إطلاق عطرها الجديد

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 06:01 2024 الإثنين ,07 تشرين الأول / أكتوبر

نجمات تألقن على منصات عروض الأزياء
 العرب اليوم - نجمات تألقن على منصات عروض الأزياء

GMT 06:18 2024 الإثنين ,07 تشرين الأول / أكتوبر

الخزانة ذات الأدراج قطعة أثاث مهمة في غرفة النوم
 العرب اليوم - الخزانة ذات الأدراج قطعة أثاث مهمة في غرفة النوم

GMT 20:44 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

نحن وانتظارنا الطويل... الطويل جداً!

GMT 11:11 2024 الإثنين ,07 تشرين الأول / أكتوبر

نووي إيران... الحقيقي

GMT 23:59 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل تجدد هجماتها على الضاحية الجنوبية لبيروت

GMT 16:22 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

غارة تدمر مسجدا في بلدة يارون جنوبي لبنان

GMT 21:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 21:26 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

الأمير ويليام يكشف سبب غيابه عن الأولمبياد 2024

GMT 00:31 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

روح أكتوبر!

GMT 01:26 2024 الإثنين ,07 تشرين الأول / أكتوبر

استقالة كبيرة موظفي رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab