واشنطن - العرب اليوم
يشكل الاستغناء عن الغاز والمنتجات النفطية الخطوة الأحدث في العقوبات التي شرعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وغيرهم عبر العالم في فرضها على روسيا. يعتقد المسؤولون الكبار في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، أن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا «شطب» أكثر من 30 عاماً من انخراط روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي في المجتمع الدولي والاقتصاد العالمي.أعاد قرار الحرب إلى الأذهان زمن الحرب الباردة ومصطلحات اعتقد كثيرون أنها ذهبت إلى غير رجعة. يتضمن الحديث الأميركي تكهنات متزايدة عن «الستار الحديدي» بين الغرب والمعسكر الاشتراكي، ويقابله كلام روسي عن «التعايش السلمي» تحت المظلة النووية. وذهب بعض الأميركيين في الآونة الأخيرة إلى تسمية بلدهم «الولايات المتحدة العقابية» كتعبير ساخر من كثرة الإجراءات التي تتخذها الإدارات الأميركية لمحاسبة الدول والجماعات والأفراد على أفعال يقومون بها. وبدا في مرات كثيرة أن هذه العقوبات صارت عديمة الفاعلية.
بلغت الجزاءات التي اتخذتها إدارة الرئيس جو بايدن بالتنسيق مع دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى وغيرها من الحلفاء والشركاء رداً على غزو أوكرانيا، حداً لا سابق له على اقتصاد روسيا الذي تبلغ قيمته 1.5 تريليون دولار ويحتل المرتبة الـ11 في العالم. أدت على الفور إلى هبوط حاد في سعر الروبل وإلى إغلاق سوق الأسهم، ودفعت المواطنين إلى التهافت على المصارف. وعلى رغم إقرار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن «هذه ليست حرب الشعب الروسي»، نبّه إلى أن «الشعب الروسي سيعاني تبعات خيارات قادته». وكشف مسؤولون أميركيون، عن أن تصعيد العقوبات حدث بشكل أسرع بكثير من التوقعات. وردوا ذلك إلى تبني الزعماء الأوروبيين أكثر الإجراءات حزماً التي اقترحتها إدارة بايدن لمعاقبة روسيا على اعتمادها الخيار العسكري لتحقيق أهدافها. ويعتقد بعضهم أن الرئيس الروسي يمكن أن يوقف الحرب إذا احتج عدد كافٍ من الروس في الشوارع وانقلب عليه عدد كافٍ من أباطرة المال المحيطين به في الدوائر الصغيرة حوله في الكرملين. ولا يأتي المسؤولون الأميركيون والأوروبيون على ذكر أي سعي إلى «تغيير النظام» أو انهيار الحكم في موسكو عن طريق هذه العقوبات.
- النفط والغاز
جاءت الخطوة الأخيرة التي أعلنها الرئيس جو بايدن بحظر استيراد النفط والغاز من روسيا لتشكل ما يمكن أن يرقى إلى أقوى ضربة على الإطلاق للبلد الذي يعتمد اقتصاده بنسبة 60 إلى 70 في المائة على هذين الموردين الطبيعيين. وأوضح الرئيس بايدن، أن قراره التخلي عن النفط الروسي يعني أن «الشعب الأميركي سيوجه ضربة قوية أخرى لآلة حرب بوتين»، مضيفاً أن الولايات المتحدة «تستهدف الشريان الرئيسي للاقتصاد الروسي»؛ لأنها لا تريد أن «تشارك في دعم حرب بوتين» على أوكرانيا، حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى ارتفاع إضافي في أسعار البنزين. وشدد على أن «بوتين لا يمكن أبداً أن يخرج منتصراً من الحرب». واتخذ بايدن هذا القرار «بتنسيق وثيق» مع حلفاء الولايات المتحدة، علماً بأن أوروبا ترفض فرض حظر فوري على الواردات الروسية من الطاقة التي توفر روسيا 40 في المائة من حاجاتها إلى الغاز الطبيعي و30 في المائة من حاجاتها إلى النفط. وأخذ بايدن في الاعتبار أن الولايات المتحدة دولة مصدرة لموارد الطاقة؛ ولذلك «يمكننا اتخاذ هذا القرار حيث لا يستطيع آخرون»، مستدركاً «لكننا نعمل بشكل وثيق مع أوروبا وشركائنا لوضع استراتيجية على المدى الطويل من أجل تخفيف اعتمادهم على الطاقة الروسية».
- «نورد ستريم 2» وغيره
ومع أن الولايات المتحدة كانت تستورد ما يصل إلى 8 في المائة فقط من حاجتها إلى النفط و4 في المائة للغاز من روسيا، فإن هذا الإجراء الذي اتُخذ بالتزامن مع قرار مماثل من بريطانيا يمكن أن ينذر بأن أوروبا ستبدأ تدريجاً بقطع اعتمادها على الوقود الروسي. وظهرت أولى العلامات حيال ذلك من خلال تخلي ألمانيا عن مشروع «نورد ستريم2» لإمدادات الغاز من روسيا. وتخلت السلطات الألمانية عن ترددها في هذا الاتجاه بعدما أصرت الولايات المتحدة على ضرورة أن تؤدي العقوبات إلى إلحاق الضرر بقطاعات الطاقة والنقل في روسيا، بالتساوي مع الضوابط على الصادرات والحظر على تمويل التجارة. وجاءت الخطوة الأميركية بعد تصاعد ضغط الحزبين الديمقراطي والجمهوري على إدارة بايدن لإنهاء جميع واردات النفط الروسية وفرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي، وبعدما حض المشرعون الأميركيون بايدن علناً على ضرب بوتين في المواقع الأكثر إيلاماً. وقدموا مقترحات من شأنها إنهاء واردات النفط الروسية إلى الولايات المتحدة. ورأى السيناتور جيم ريش، أنه «إذا كانت العقوبات الحالية كافية، لن يتجه رتل الدبابات الروسية الذي يبلغ طوله 40 ميلاً (64 كيلومتراً) إلى كييف».
- البنك المركزي الروسي
وقبل العقوبات النفطية، كانت أشد العقوبات هي تلك التي تمنع البنك المركزي الروسي من الاستفادة من معظم احتياطاته من العملات الأجنبية البالغة 643 مليار دولار؛ مما أدى إلى انخفاض حاد في سعر الروبل الذي خسر نحو 50 في المائة من قيمته مقابل الدولار الأميركي في غضون أيام قليلة. وأدت هذه الإجراءات إلى فرض «قيود» تمنع البنك المركزي الروسي
من استخدام احتياطاته الدولية بطرق تقوض تأثير العقوبات، كما أنها تشل أصول البنك المركزي وتجمد معاملاته؛ مما يجعل تصفية أصوله مستحيلة.تظهر هذه الخطوة الاستثنائية كيف غيّر غزو أوكرانيا الطريقة التقليدية التي كانت تعتمدها الإدارات الأميركية المتعاقبة للرد على تصرفات روسيا داخليا وعلى الساحة الدولية. كان سلاح العقوبات أداة تستخدمها الولايات المتحدة حصراً ضد أفراد أو مؤسسات في روسيا بين الحين والآخر لأسباب تتعلق بأفعال مثل قمع الحريات السياسية والدينية في روسيا، بما في ذلك محاولة تصفية المعارض أليكسي نافالني عبر تسميمه بمادة «نوفيتشوك» المحظورة دولياً، أو الهجمات السيبرانية، أو التدخل في الانتخابات الأميركية، أو الاستيلاء على شبه جزيرة القرم وضمها عام 2014. أو حتى عقب اعتراف موسكو باستقلال جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الجورجيتين. لم تجدِ الطرق القديمة نفعاً.
- لا «سويفت» ولا تحويلات
تتسم العقوبات الجديدة بأنها منسقة جيداً بين الولايات المتحدة وحلفائها. وبدأت الجولة الأحدث منها في مستهل الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، وهي شملت أربعة من المصارف والمؤسسات المالية الروسية الكبرى. وجاء الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وكندا على استخدام بعض المصارف الروسية لنظام «سويفت»، وهي شبكة مشددة أمنيا لتسهيل التعاملات المالية بين 11 ألف مؤسسة مالية في 200 دولة، ليوجه ضربة قاسية يمكن أن تؤدي إلى إخراج روسيا من النظام المالي الدولي. وترقى هذه الخطوة إلى ما يسميه البعض «السلاح المالي النووي» في ترسانة العقوبات لدى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.ومنعت الولايات المتحدة التعامل مع 13 شركة كبرى تملكها الدولة الروسية من جمع الأموال في الولايات المتحدة، بما في ذلك عملاق الطاقة «غازبروم» ومؤسسة «سبيربنك» المالية الكبرى ومصرف «سوفروم بنك» وغيره من المصارف التي تمول بشكل خاص وزارة الدفاع الروسية.وتشمل العقوبات الأميركية حظر تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى روسيا التي تعتمد بشكل كبير على أشباه النواقل والرقائق الإلكترونية المعقدة لتطوير صناعاتها الدفاعية والفضائية؛ مما سيحد بشدة من قدرة روسيا على النهوض بهذين القطاعين. وأكد البيت الأبيض، أن العقوبات «تشمل قيوداً على مستوى روسيا على أشباه الموصلات والاتصالات السلكية واللاسلكية وأمن التشفير والليزر وأجهزة الاستشعار والملاحة وإلكترونيات الطيران والتقنيات البحرية».
- الاتحاد الأوروبي وبريطانيا
وبموازاة الخطوات الأميركية، اتخذت العديد من الدول الأوروبية، ولا سيما بريطانيا وفرنسا وألمانيا، إجراءات للحد من بيع «جوازات السفر الذهبية» التي تسمح للأثرياء الروس بالحصول على جنسيات في دول أخرى مقابل استثمار. ومن شأن ذلك أن يضيق الخناق على الأثرياء الروس الذين تربطهم صلات بالحكومة ليصبحوا مواطنين في بلدان أخرى و«يمكنهم الوصول إلى الأنظمة المالية» في الغرب. وما أن شرعت روسيا في غزوها، بدأت الدول الأوروبية تلاحق السلع الكمالية المملوكة لروس مستهدفين بالعقوبات، بما في ذلك الأصول المالية والعقارات واليخوت والسيارات الفاخرة التي تملكها شخصيات روسية خاضعة للعقوبات الأوروبية. وسارعت اليابان إلى المشاركة في هذه العقوبات، بما يتوافق مع قرارات مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى. وكذلك فعلت أستراليا ونيوزيلندا وتايوان التي ركزت على الأوليغارشية، الذين «يمثل ثقلهم الاقتصادي أهمية استراتيجية لموسكو وأكثر من 300 عضو في مجلس دوما الدولة الروسي».وأعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، أن المملكة المتحدة ستحظر شركة الطيران الوطنية الروسية «ايروفلوت»، وستصدر تشريعات لحظر تصدير بعض التقنيات، لا سيما «في قطاعات تشمل الإلكترونيات والاتصالات والفضاء» في روسيا.
- حتى سويسرا
وعلى رغم أن سويسرا محايدة تاريخياً، أعلن رئيسها إغناسيو كاسيس، أن بلاده التي تعد مركزاً رئيسياً للأثرياء الروس، ستتبنى عقوبات الاتحاد الأوروبي وستجمد أصول بعض الأفراد «بأثر فوري»، موضحاً أن «الهجوم العسكري الروسي غير المسبوق على دولة أوروبية ذات سيادة كان العامل الحاسم في قرار المجلس الاتحادي تغيير موقفه السابق بشأن العقوبات». وتشمل هذه العقوبات وتجميد الأصول الرئيس بوتين ورئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين ووزير الخارجية سيرغي لافروف. وتعهدت الولايات المتحدة والدول الغربية أيضاً بفرض عقوبات على 20 من الأفراد والشركات البيلاروسية، بما في ذلك «مصرفان مهمان تملكهما الدولة، وتسع شركات دفاع، وسبعة مسؤولين ونخب على صلة بالنظام».
أياً كان الهدف من العقوبات، فلها سجل ضعيف في إقناع الحكومات بتغيير سلوكها. ويشير البعض إلى فشل العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترمب على إيران، وهي الأكثر قسوة عالمياً، في إجبار طهران على التوقف عن دعم الميليشيات في الشرق الأوسط أو وقف جهودها في تخصيب اليورانيوم. وكذلك تقدمت كوريا الشمالية ببرنامج أسلحتها النووية على رغم العقوبات الكبيرة التي فرضها أربعة من الرؤساء الأميركيين. وينطبق الأمر نفسه إلى حد كبير على العقوبات الأميركية على سوريا وكوبا وفنزويلا.
قد يهمك ايضاً
أرسل تعليقك