تسبّب اضطراب الأوضاع الأمنية والسياسية في اليمن وما تلاه من صراع مسلّح وحرب بانهيار مؤسسات الدولة وتعطّلها وبتفشٍّ لا سابق له للفساد الذي طال كل جوانب الحياة.ويشهد اليمن الذي يعيش حالة فوضى منذ العام 2011 تغلغلاً للفساد لم يحدث منذ عقود، إذ يتم التصرّف بالمال العام بعيدًا عن القوانين واللوائح المنظّمة. كما انتشر
الاستيلاء على أراضي الدولة وعقاراتها وكذلك تلك المملوكة من الأوقاف. وباتت السوق السوداء للسلع الأساس والمشتقات النفطية والغاز المنزلي في كل مكان، فضلاً عن توسع عمليات مصادرة ممتلكات شخصيات سياسية ورجال أعمال وأرصدتهم، وعمليات التهرّب الضريبي والتهريب الجمركي.
وفي ظل غياب الرقابة والمساءلة، وُظّف آلاف الأشخاص في المؤسسات التنفيذية والقضائية وأجهزة الجيش والشرطة والأمن السياسي والقومي (المخابرات)، استناداً إلى شروط الولاء السياسي والحزبي ومعاييره وليس إلى تلك المحددة لشغل الوظيفة العامة وأهمها الكفاءة والنزاهة والحيادية. كما أُقصي المئات من وظائفهم الحكومية بذرائع غير قانونية، في وقت لم تتمكّن الحكومة من رفع آلاف الموظّفين المزدوجين والوهميين عن كشوفات الراتب أو الإحالة على التقاعد.
وأدّى التوظيف غير القانوني إلى تضخّم الجهاز الإداري للدولة، بما يرتّب ارتفاع فاتورة الأجور والرواتب، وتحمّل الموازنة العامة أعباء إضافية. ومنذ تفاقم الأزمة نهاية آذار /مارس 2015، يستورد التجّار وبتواطؤ مع مسؤولين ونافذين كميات كبيرة من المشتقات النفطية ويبيعونها في السوق السوداء بأسعار تفوق كثيراً تلك العالمية، التي انخفضت بسبب تراجع أسعار النفط.
وطاول الفساد تحويلات المغتربين اليمنيين إلى أسرهم وذويهم، إذ تمتنع المصارف وشركات الصرافة عن دفع الحوالات بالعملات الأجنبية المرسلة بها، لتدفعها بالريال اليمني وبالسعر الرسمي المقدّر بـ 250 ريالاً للدولار الواحد، في حين أن سعره في السوق السوداء يزيد على 300 ريال.
ولم تسلم المساعدات الإنسانية المخصّصة للتوزيع مجاناً على الفقراء والمحتاجين من العبث، إذ شوهدت مساعدات "برنامج الأغذية العالمي" التابع للأمم المتحدة في صنعاء وكذلك في عدد من المحافظات تُباع في محال الجملة والتجزئة للمواطنين وبأسعار السوق.
وحلّ اليمن في المرتبة 154 بين 168 دولة شملها مؤشّر مدركات الفساد عام 2015، الذي أصدرته "منظّمة الشفافية الدولية"، وحصل على 18 درجة فقط من مئة.
وفي ظل شحّ الموارد وعدد السكان الذي يزيد على 25 مليون شخص وتفاقم أزمتي الفقر والبطالة، إلى جانب تعليق دعم المانحين وتوقّف الاستثمارات، بات تفشّي الفساد يشكّل تهديداً حقيقياً لحاضر الدولة والمجتمع ومستقبلهما.
وكشف مصدر في "الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد" لـ "الحياة"، أن الهيئة "تصدّت لجرائم فساد كثيرة تتعلق بعمليات اختلاس وتزوير واستيلاء على المال العام أو تسهيل الاستيلاء عليه، من خلال قيامها بوقف الصرف أو الحجز أو التجميد". ولفت إلى أن حجم الأموال المستردّة من قضايا فساد والتي حُصّلت للخزينة العامة بين عامي 2014 و2015، بلغ 11.778 بليون ريال يمني و11.123 مليون دولار، وأراضٍ بمساحة 7.527 مليون متر مربّع. وأكد أن الهيئة التي تأسّست عام 2006 "ركّزت خلال الفترة الماضية على قضايا نوعية يمكن من خلالها رفد خزينة الدولة بموارد مالية لازمة لدفع عجلة الحياة وصرف الرواتب، مثل التهرّب الجمركي والضريبي لشركات الاتصالات والشركات المستوردة للمشتقات النفطية ورسوم الصناديق منها، والتهرّب الضريبي على مادة القات والتوريدات الخارجية التي تستنزف العملة الصعبة، والعقود المبرمة مع الشركات الأجنبية.
وأضاف المصدر أن "متنفّذين وأصحاب رؤوس أموال يقومون بالتدليس والتشويه لحقائق كثيرة حفاظاً على مصالحهم". وزاد "على رغم توقّف معظم أجهزة الدولة عن العمل وإغلاق أبوابها وإعطاء موظّفين كثراً إجازة مفتوحة، إلا أن الهيئة خلال هذه الفترة الصعبة حرصت على العمل وتواجد الموظّفين وتشكيل لجان للنزول الميداني إلى جهات ومرافق حكومية كثيرة في الدولة، حتى في أقسى الظروف واشتداد حدّة القصف وانقطاع المشتقات النفطية".
وأشار إلى أن جهات ومرافق حكومية "تعرّضت للقصف أثناء تواجد الفريق المكلّف من الهيئة للتحقيق في جرائم الفساد".
وأعادت "الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد"، انتخاب القاضي أفراح صالح بادويلان رئيساً لها للنصف الثاني من فترة الهيئة التي يبلغ عدد أعضائها 11.
وفي 20 أيلول /سبتمبر 2015، أصدرت ما تسمّى "اللجنة الثورية العليا" التابعة للحوثيين قراراً رقمه 49 قضى بتعيين القاضي نبيل ناصر العزّاني نائباً لرئيس الهيئة، وسليم محمد محمد السيّاني عضواً في الهيئة رئيساً لقطاع الوحدات الاقتصادية.
ويُعد الفساد في اليمن مشكلة مزمنة ومعقّدة وله أبعاد سياسية وقبلية واجتماعية، إذ لم تنجح "حكومة الوفاق الوطني" التي تشكّلت عقب توقيع المبادرة الخليجية عام 2011 واستمرّت حتى اجتياح الحوثيين صنعاء في أيلول 2014، في التعامل مع ملف الإصلاحات الاقتصادية والإدارية خصوصاً التصدّي للفساد. كما لم تتمكّن من إقرار مشروع قانون "استرداد الأموال المنهوبة" بسبب رفض حزب "المؤتمر الشعبي العام" الذي يرأسه الرئيس السابق علي عبدالله صالح الشريك في الحكومة آنذاك.
وزاد الفساد في اليمن على رغم اندلاع الاحتجاجات الشعبية عام 2011 وما أدّت إليه من تغيير الرئيس والحكومة، كما كشف تفاقم الفساد حالياً زيف الشعارات التي رافقت دخول الحوثيين صنعاء، والسيطرة على أجزاء واسعة من البلاد. وأظهر تقرير حديث صادر عن "منظّمة الشفافية الدولية" فشل حكومات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وقف الفساد.
وجاء في التقرير أن واحداً من كل ثلاثة مواطنين دفع رشوة للحصول على خدمات عامة أساس في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما يعني فشل الحكومات في شتّى أرجاء المنطقة في سماع أصوات مواطنيها المناهضة للفساد.
ووفقاً لدراسة استطلاعية أجرتها المنظّمة وشملت 11 ألف شخص في تسع دول ومناطق، رأى 61 في المئة من الناس المستَطلعين في أنحاء المنطقة أن "مستوى الفساد ارتفع على مدى الأشهر الـ 12 الأخيرة". وتمثّل نسبة 30 في المئة من الذين دفعوا رشوة للحصول على خدمة أساس، ما يعادل نحو 50 مليون شخص.
وخلُصت الدراسة إلى أن حكومات، بعد مرور خمس سنوات على ثورات الربيع العربي، لم تفعل شيئاً يذكر لتطبيق قوانين مكافحة الفساد والرشوة". كما لم تعمل "ما فيه الكفاية من أجل الشفافية والمساءلة من خلال تعزيز حريات الأفراد والصحافة والمجتمع المدني".
أرسل تعليقك