صنعاء ـ عبد الغني يحيى
حافظ البنك المركزي على حياده لدرجة أنه يسدد مرتبات الجنود من الطرفين، ويصرف المال للعاملين في القطاع العام سواء في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة أو تحت سيطرة خصومها، ويضمن سداد مدفوعات الواردات الحيوية من الحبوب والطحين (الدقيق)، يأتي ذلك وسط الحرب الأهلية الدائرة في اليمن.
وتؤدي البنوك المركزية دورًا مهما في الاقتصاد في دول كثيرة، لكن البنك المركزي في اليمن الذي نكب بحرب منذ أكثر من سنة يحافظ على البلاد من الانهيار المالي ويضمن عدم نفاد الغذاء. ومقر البنك موجود في العاصمة صنعاء التي لا تخضع لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليا منذ سيطر عليها الحوثيون في أواخر عام 2014. ويعد البنك المركزي الحصن الأخير للنظام المالي في هذه الدولة الفقيرة. ويقول مسؤولون فيه وديبلوماسيون أجانب ومصادر سياسية يمنية، إن البنك يتولى إدارة الاقتصاد على جانبي الحرب. ويشيرون إلى أن استقلال البنك ليس مجرد ضرورة لأي مصرف مركزي؛ فتأمين الواردات ودرء شبح مجاعة تلوح في الأفق، يستلزمان ثقة جهات الإقراض والتجارة الدولية في قدرة البنك على إدارة العملة اليمنية (الريال) واحتياطات النقد الأجنبي دون تدخل سياسي.
ويعتمد البلد على الواردات في سد 90% من حاجاته، لكن الواردات آخذة في التراجع منذ بدأت الحرب ويحتاج 21 مليون شخص من بين السكان البالغ عددهم 28 مليونًا، لشكل ما من أشكال المساعدات الإنسانية، كما أن أكثر من نصف السكان يعانون سوء التغذية. وقال رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في اليمن ألبرت جاغر "من المنصف القول إن البنك المركزي جاد بكل تأكيد في التزام الحياد في مناخ سياسي وأمني في غاية الصعوبة، وحقق نجاحًا إلى حد كبير في الحفاظ على الاستقرار المالي الأساسي خلال الصراع".
ويصرف البنك المركزي بانتظام مبالغ بالريال لسداد مرتبات الجنود الموالين للحوثيين وغيرهم من موظفي الدولة المسجلين في قوائم الأجور بالوزارات في الأراضي الخاضعة لسيطرة الجماعة. والمبالغ المعنية غير معروفة ولم تصدر إحصاءات رسمية من البنك منذ بدأت الحرب. وأفادت مصادر في البنك المركزي وديبلوماسيون ومصادر سياسية إلى أن البنك يرسل أيضًا أموالًا إلى مدينة عدن الساحلية التي أعلنتها الحكومة عاصمة موقتة لسداد مرتبات الأطباء والمدرسين وبعض الجنود في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة في جنوب اليمن وشرقه.
وأثر الصراع على إمدادات مواد أساسية مثل الغذاء والوقود والدواء وسط حصار قوات التحالف شبه الكامل للموانئ. ويؤدي البنك المركزي دورًا أساسيا في الحفاظ على استمرارا تدفق السلع الضرورية؛ فيضمن واردات الطحين والحبوب بالأسعار الرسمية، لكنه ألغى مثل هذه التعهدات للرز والسكر في شباط/ فبراير الماضي مع تناقص احتياطاته من الدولار. وأشارت وكالة "رويترز" في تقرير في آذار/ مارس الماضي إلى أن بنوكًا غربية قطعت بالفعل خطوط الائتمان للتجار الذين يشحنون الغذاء إلى اليمن بسبب الفوضى الأمنية وهشاشة النظام المالي. ويتزايد عزوف هذه البنوك عن إصدار خطابات الاعتماد التي تضمن الوفاء بمستحقات البائعين في مواعيدها.
وأشار مصدر في البنك المركزي إلى أن السلطات كانت عجزت "عن سداد المرتبات وضمان الواردات الغذائية لو أن المصالح السياسية هي التي حركت السياسة النقدية، ولكان الريال خسر قيمته وارتفع التضخم". وأضاف " رغم أن للموظفين هنا آراء سياسية متباينة، فنحن نعتز بتمسك البنك المركزي باستقلاليته بطريقة قللت الأثر السلبي على حياة الناس". ويرجع جانب كبير من الفضل في استمرار البنك المركزي إلى محافظه محمد بن همام البالغ من العمر 69 عامًا، الذي تربطه صلات جيدة بطرفي الحرب الأهلية. فعندما تدخل التحالف العربي الخليجي في اليمن فر الرئيس هادي والكثير من وزرائه إلى بيوت الضيافة في الرياض. أما بن همام فبقي في صنعاء. ويقول ديبلوماسيون ومسؤولو البنك المركزي إن الطرفين المتحاربين اتفقا على "هدنة اقتصادية" غير مكتوبة يظل فيها البنك المركزي بعيدًا عن التدخل السياسي لتفادي الانهيار الاقتصادي. وعندما استعادت القوات الحكومية السيطرة على عدن من قوات الحوثيين في تموز/ يوليو الماضي وتعهد هادي بإقامة عاصمة موقتة فيها، انتشرت الشكوك في ما إذا كان البنك المركزي سينقل قاعدته. ثم غادر بن همام صنعاء فجأة. وقال مسؤول أمني يمني كبير في صنعاء "انتابهم (الحوثيون) الخوف. ظنوا أنه هرب". وأضاف "سافر إلى السعودية والتقى مسؤولين في الحكومة هناك، وتلقى ضمانات بأن حياد البنك سيحترم، ثم استقبلوه عندما عاد استقبال الأبطال".
ورغم المساعي الرامية إلى تعزيز الاقتصاد فربما كانت الخيارات بدأت تنفد أمام البنك المركزي. فقد كان اليمن يواجه تحديات اقتصادية شاقة حتى قبل نشوب الحرب، لكن نعمة النفط كانت تعينه. وكانت صناعة الطاقة تمثل 80% من حجم موازنة الدولة ونحو نصف التدفقات من النقد الأجنبي. لكن الصادرات توقفت قبل أكثر من سنة وانسحبت الشركات الأجنبية ولم تنتزع القوات الحكومية السيطرة على أكبر مرفأ لتصدير النفط في البلاد من تنظيم القاعدة سوى في أواخر نيسان/ أبريل الماضي، كما أن مرفأ الغاز الطبيعي الرئيس في البلاد لا يزال في أراض تحت سيطرة مقاتلي الحوثيين.
وفي غياب أي وسائل تذكر لتعويض ما نقص من احتياطات النقد الأجنبي ظل البنك المركزي ينفق دولاراته لسداد الواردات والوفاء بالتزامات اليمن في سداد الديون الخارجية. وانخفضت الاحتياطات إلى نحو 1.1 بليون دولار من 4.7 بليون في نهاية عام 2014. وقدر البنك المركزي أنها تكفي لتغطية ما يقل عن واردات شهرين. وقال ديبلوماسي أوروبي "الانهيار الاقتصادي خطر حقيقي وشيك". مضيفا أنه لا شيء أمامنا سوى إبرام اتفاق سلام سريع في محادثات السلام الجارية في الكويت، بدعم من الأمم المتحدة يمكن أن يدرأ الكارثة.
أرسل تعليقك