تتميز مدينة عدن عن باقي المدن اليمنية أنها في البدء حصن وسوق، وعندما نقول ذلك إنما نشير إلى طبيعة تكوينها الجغرافي، حيث إنها حصن طبيعي لإحاطة الجبال بها من جوانبها الثلاثة عدا الجهة الشرقية المتمثلة في البحر، كجهة إتصال بالتجارة العالمية، وهذه عوامل طبيعية حباها الله بها أدت إلى جذب الإنسان إليها للإقامة والعيش، ويأتي إسم مدينة عدن الذي يعني في اللغة العربية «الإقامة»، ليعزز ذلك.
من الناحية التراثية، عدن تحمل إرثًا ثقافيًا ضخمًا يقترب من العالمية بسبب إختلاط كثير من الثقافات الشرقية فيها وتعايشها في إمتزاج قلما نجده في مكان آخر؛ لهذا نراها اليوم تقاوم منفردة بعناد عجيب هذا التطرف والعنصرية التي تمارسها عصابات الحوثي بعدوانها السافر على تراث المدينة ومعالمها التاريخية.
يتحدث القائم بأعمال مدير عام مركز عدن للثقافة والتراث لـ«الاتحاد» الباحث حافظ مصطفى ، إن عدن تقع في الركن الجنوبي الغربي من شبه جزيرة العرب بين البحر والجبل وخلفها الصحراء، وذكرت في كتاب التوراة الإصحاح (27) بأنها سوق تجارية، حيث تتمتع المدينة بعنصر جذب غريب للإنسان رغم سواد جبالها وقيضها الحار ورطوبتها المرتفعة صيفًا، وعبر عن تلك الجاذبية كثير ممن زاروا عدن ومكثوا فيها، منهم الشاعر الفرنسي المتمرد أرثر رامبو الذي مكث فيها أطول مدة مقارنة في المدن المجاورة، بل كتب فيها أجمل ما فاضت به قريحته الشعرية، واصفًا المدينة منذ أمد بعيد بأن من يدخلها متاجرًا بمال قليل سرعان ما يتضاعف ماله، أيضا وصفت إحدى السائحات الإسبانيات الرجل في عدن بأنه أكثر تحضرًا عن كثير من الرجال في بلدان كثيرة في العالم عندما زارت عدن في مطلع التسعينيات.
وتؤكد قلعة صيرة وصهاريج عدن أن المدينة كانت زاخرة بعدد كبير من السكان وبالنشاط التجاري؛ لأن عدد الصهاريج اقترب من الأربعين صهريجًا امتد إلى داخل المدينة، بل شكل نظام الصهاريج هندسة مثيرة من حيث القدرة على حبس المياه وتوزيعها إلى الأحياء والمنازل، وهذا النظام الهندسي يجب أن يرى النور وتطلع عليه الأجيال والعالم بأسره. كما أن المادة التي طليت بها الصهاريج مادة خاصة لا تشبه في تكوينها أي مادة قديمة، وهي مادة البوميس المستخرجة من مناجم البوميس وكهوف البوميس هي الأخرى مادة علمية تتحدث عن أسلوب متقدم في الإستخراج بأمان.
ويتحدث مصطفى «إذ تحكي لنا الأسطورة العدنية ذلك التلازم بين العلاقة الفلسفية وبين مقتل هابيل بيد أخيه قابيل وحمله إلى عدن ليقبر بها، لقد أتى قابيل بإثمه الكبير إلى عدن كأرض يسعى فيها للتكفير عن ذنبه.. عدن التي ذُكرت حولها الكثير من الأحاديث، منها ما هو متعلق بالأحاديث القدسية، ومنها ما يتعلق بالروايات والحكايات الشعبية».
عدن عرفت الأسواق العامة قبل أكثر من (800) عام وما كان يسمى القيصارية، وهي سوق تشبه إلى حد كبير «السوبر ماركت» أو «المولات» اليوم تفتح بالنهار وتغلق بالليل تباع فيها مقتنيات وسلع متنوعه.
أما عن العادات الطقوسية كزيارة العيدروس، فيضيف مصطفى: «إن عدن مدينة تختلط فيها المذاهب بطريقة مريحة جدًا وشعبية حالمة مثيرة للإعجاب، ففي تراثها تجد الصوفية بكل ما تحمله من حب، وتجد الشيعية تتجلى في هدهدة الأم لأطفالها ولعب الأطفال، وتجد السنية في بساطتها وتواضعها بمساجدها الخالية من الزخرف، بل كان بالإمكان رؤية المعبد اليهودي والزرادتشي لولا موجة التطرف التي تعم المنطقة والعالم».
إن الأثر التاريخي المادي في عملية صناعة السياحة يجب أن يدعم بالعمق الإنساني أو الأداء الإنساني، كالرقص الشعبي والتشكيل والشعر والدراسات الخاصة بالعادات والتقاليد والأمثال الشعبية. وأكد مصطفى في حديثة أن إنقاذ عدن مهمة تجاوزت سكانها اليوم إلى سكان شبه جزيرة العرب وها هم يدفعون الدم والمال ليجدوا جبال من الوفاء تنمو في قلوب أهل عدن لهذا المدد، قد يتهيأ للمرء وهو يجول في عدن، وهو ينصت إلى صوت أمواجها المتواصلة أنها تنتحب بصمت حتى لا يسمعها أحد، لكنها لا تستطيع أن تكون وحدها، سمعها العالم وأدرك ألمها.. لننتظر ذلك الضوء الآتي من لج العتمة.. لأن عدن مدينة تستحق الحياة كغيرها من مدن المنطقة، وهي لا تنسى إلا من أساء إليها...
وقال إن عدن مدينة منفتحة على الإنسان كإنسان بغض النظر عن ثقافته وعرقه ولونه، لهذا عندما نتطلع إلى المستقبل ونحن نملك مدينة بهذه المواصفات نشعر بأهميتها، خاصة عندما يتعلق الأمر في إقامة المنطقة الحرة، خاصة أن لهذه المدينة تجربة حديثة ناجحة.. عدن بحاجة اليوم إلى الإستقرار، وسترون كم هي نافذة للإنسان على الحب والسلام والأمن.
وتعرف عدن بالحب والسلام، والثقافة والتحضر، ولم تشئ الحرب يومًا، ولم تدق أبوابه أبدًا، دائمًا الحروب تأتي إليها، ودائمًا الغزاة يحاولون الاعتداء عليها، ودائمًا ما تكشر لهم عن أنيابها، وتذود عن نفسها وأبنائها بكل قوتها، هي مدينة الحب والسلام دومًا، ولكن حينما يحين الوقت فهي أيضًا مدينة الدفاع والتضحية، حين جاءتها الحرب تصدت لها وبكل قوة، ولكن كالمطر هي الحرب، لا تهطل على بيت وتترك ما حوله، لا تفرق بين مدني وعسكري، لا يهمها معلم ولا ثقافة، ولا مسكن ولا مشفى، فدمار الحرب لا يميز. دمرت الحرب عدن وكان لحقد الغزاة دوره في زيادة ذلك الدمار، وقد شمل العديد من المراكز الحيوية والمنشآت المهمة، كالكهرباء والإتصالات وميناء الزيت والطرقات وغيرها، وكذلك شمل العديد من المعالم الثقافية المهمة في المدينة، خاصة في مدينة كريتر التي تحمل في كل شارع منها معلماً مهماً.
وقد أصدرت مؤسسة عدن أجين الثقافية تقريرًا رصدت فيه الدمار الذي لحق بالمعالم الثقافية والتاريخية التي تضررت بفعل الحرب على عدن من قبل مليشيات الحوثي والمخلوع صالح.
مكتبة الفقيد باذيب الوطنية
مكتبة الفقيد باذيب أو المكتبة الوطنية التي بنيت في مطلع الثمانينيات في مدينة كريتر التاريخية، تقع في شارع المتحف، وهو من أهم الشوارع الحيوية في المدينة، المكتبة التي تحوي أرشيف عدن الثقافي ووثائق مهمة عدة ونسخًا قديمة جدًا من أقدم الصحف العدنية التي كانت تنشر في أوج عهد عدن الثقافي مطلع القرن الماضي، تعرضت المكتبة للتدمير وطالتها يد العبث، فمنذ محاولة مليشيا الحوثي وصالح اقتحام مدينة كريتر مطلع شهر أبريل، والمكتبة كانت من أوائل المباني المتضررة، فقد تهشمت واجهتها الزجاجية بالكامل، وتسببت قذيفتان أطلقتهما مليشيا الحوثي وصالح بفجوتين كبيرتين بمبنى المكتبة، الفجوة الأولى جهة قاعة لطفي جعفر أمان في الدور الأرضي، والفجوة الأخرى في غرفة مدير المكتبة في الدور الأرضي أيضًا، الفجوتان يمكن الدخول عبرهما إلى المكتبة، لكن ظلت أعين شباب عدن تحرس المكتبة إلى أن استطاعت المليشيات اقتحام كريتر في شهر مايو، ومن حينها تعرضت المكتبة لسرقات متعددة، فقد تمت سرقة معظم أجهزة الحاسوب، وبعض المكيفات، والعديد من الكتب من قاعة لطفي جعفر أمان، أما الأرشيف وقسم الدوريات فلم يتعرضا لأي سرقات حتى اللحظة، ولكن مليشيا الحوثي وصالح عبثت في المكتبة واقتحمت معظم قاعاتها وكسرت كل الأبواب وعبثت بالأسقف. وبعد إخراج المليشيات من كريتر، قامت مجموعة من الشباب المخلصين بدور بطولي تطوعي لحماية أرشيف عدن، وسهرت ومازالت تسهر لحماية المكتبة التي أضحت مفتوحة الأبواب والنوافذ والجدران.
مسجد الخوجة
من المساجد الأثرية وذات الطراز المميز في مدينة عدن، بني مسجد الحسيني والمعروف بمسجد الخوجة بداية القرن العشرين، أي أن عمره يتجاوز المائة عام، يتبع للطائفة الشيعية العدنية التي تعيش في عدن بسلام وانسجام منذ قرون، بعد أن إقتحمت مليشيا الحوثي وصالح مدينة كريتر القديمة، اإخذت المسجد ثكنة وسكنًا لها، وعاثت به، مما جعله يحتاج إلى فريق هندسي آثاري متخصص لإعادة بنائه بصورته القديمة.
معبد الهندوس
في طرف من أطراف منطقة الخساف الجبلية، وما بين ثنايا الجبل بني المعبد قبل أكثر من مائة عام، معبد للهندوس يؤدون فيه طقوسهم وشعائرهم بكل هدوء، ومنذ أن عاود المعبد نشاطه وعاد أتباع الديانة الهندوسية ليؤدوا طقوسهم فيه لم يعترضهم أحد، بعد إخراج مليشيا الحوثي وصالح من كريتر منتصف شهر يوليو، جاء بعض الشبان المتشددين الذين يدعون التدين، وهدموا محتويات المعبد بشكل همجي لا يمت للدين الإسلامي بصلة.
الفراغ الأمني وقلة الوعي يهددان المعالم الدينية لعدن، ولهما انعكاسات خطيرة، ما يتطلب حماية معالم الأقليات الدينية بعدن، كون الحفاظ عليها حفاظًا على ثقافة المدينة.
المدارس الأكثر إستهدافًا
يبدو أن كلمة مدرسة تفتح شهية الجهات المتصارعة، فالمدارس كانت أكثر الأماكن إستهدافًا وتعرضًا للخطر خلال فترة الحرب، العديد من المدارس إستخدم ثكنات عسكرية من قبل مليشيا الحوثي والمخلوع صالح. وفي مدينة كريتر، على سبيل المثال، أكثر من خمس مدارس استخدمت ثكنات عسكرية من قبل الحوثيين وصالح، بينما حافظت المقاومة على المدارس التي إستخدمتها خلال فترة الحرب، لم تكترث مليشيات الحوثي وصالح بالمدارس، ولم تكتفِ بتحويلها إلى ثكنات عسكرية وسجون بل وعيادات لجرحاها، وقامت بالعبث بالعديد من المدارس وتكسير أبوابها وكتابة شعاراتهم وصرخاتهم على جدران المدارس.
هوية المدينة القديمة
مدينة كريتر العتيقة العريقة العبقة برائحة التاريخ والقدم، تتميز بطراز قديم عن بقية مدن الجنوب والمنطقة، فالمبنى العدني القديم يتكون من ملامح عدة أهمها: الحجر الشمساني المنحوت باليد، والنوافذ الخشبية المصنوعة بحنكة وإتقان، القمريات الخشبية المميزة بزجاجها الملون التي تختلف كليًا عن القمريات الجصية، والشبك الخشبي الذي يغطي النوافذ والأبواب والمشربيات، ولكن ومنذ سنوات والصناعات الحرفية لهذه النوافذ انقرضت، وهو ما أضحى يهدد الطراز المعماري القديم للمدينة القديمة ويشوه هويتها، حيث معظم نوافذ المدينة القديمة ظل بحالة جيدة وحافظ عليها قاطنوها، ومع الحرب تكسرت عشرات بل ومئات النوافذ القديمة، وتهدمت بعض المنازل الشمسانية، ونظرًا لقلة الاهتمام المسبق بهوية المدينة وطرازها القديم، فإن الخطر أصبح يحدق بمدينة كريتر القديمة وأيضاً بمدينة التواهي؛ لذلك يجب رفع مستوى الوعي بضرورة ترميم هذه المنازل القديمة بنمطها وبما يحفظ للمدينة هويتها وطابعها المعماري المميز.
إن إعادة إحياء حرفة صناعة النوافذ العدنية أضحت ضرورة ملحة، وعلى الجهات المسؤولة في المحافظة والمجالس المحلية الانتباه لذلك.
المتحف الحربي - كريتر
مبنى بديع في قلب كريتر، يفرش دفتيه على شارع سمي باسمه، يتكون من طابقين عريضين، والأقواس البديعة تزين واجهته، الحجر الشمساني والخشب الأحمر يضفيان عليه لمحة عدنية مميزة، يعتبر من أجمل المباني القديمة في المدينة القديمة كريتر، المتحف الحربي الذي كان مدرسة من أقدم المدارس في عدن بل وشبه الجزيرة سميت بمدرسة السيلة، تم استهدافه وبلا مبالاة خلال هذه الحرب وعلى ثلاث مراحل، فبالبدء وفي مطلع شهر أبريل أصابته قذائف ورصاصات مليشيا الحوثي وصالح وتسببت بفتحة في إحدى أقواس الدور الأرضي، وبعد الاشتباكات التي إنتهت بإقتحام الحوثيين إلى مدينة كريتر مطلع شهر مايو، تضرر المتحف أكثر فتخرمت جدرانه، وحطمت بوابته الكبيرة تماما، وأصبحت ميليشيات الحوثي وصالح تتخذه كثكنة عسكرية لها، وهذا ثاني الانتهاكات بحق المتحف، في منتصف شهر يوليو تعرض المتحف لقصف طيران نتيجة لاتخاذه ثكنة من قبل مليشيات الحوثيين وصالح، وهو ثالث انتهاك بحق مبنى المتحف الحربي، وبسبب ضربة الطيران تهدمت جهته الغربية، وأصبح معرضاً للسرقة.
وعن مقتنيات المتحف الحربي التي معظمها ثمينة ومهمة، فقد نهبت بعض القطع على مرحلتين، المرحلة الأولى: قامت مليشيا الحوثي وصالح بسرقة بعض القطع الأثرية المهمة والنفيسة فترة استيلائهم على كريتر وإتخاذهم المتحف ثكنة عسكرية، والمرحلة الثانية: بعد إخراجهم من مدينة كريتر حدثت فوضى مؤقتة في المدينة على إثرها قام بعض المهمشين بسرقة بعض السيوف والأسلحة القديمة، تمت إعادة جزء كبير منها والجزء المتبقي لا يزال بحوزة من سرقوها.
والمتحف بحاجة لإعادة ترميم على يد خبراء، ترميم يحفظ للمبنى هويته وقيمته التاريخية، وجرد القطع الأثرية وحفظها في مكان آمن.
رصيف السياح
رصيف ويلز المشهور برصيف السياح الذي بني بنفس طراز بوابة ميناء بومباي، عام (1905م)، يعتبر بوابة الميناء السياحية، طرازه الجميل وسقفه القرميدي البديع يعتبر ميزة من ميزات مدينة التواهي، سيطرت مليشيا الحوثي وصالح على مدينة التواهي، وتمركزوا داخل رصيف السياح، حيث تعرض الرصيف لضربة طيران دمرته بنسبة (90%)، لم يتبق من سقفه البديع إلا أشلاء، ومعظم أحجاره دمرت، ولم يتبق سوى الواجهة بحالة سليمة.
كنيسة سانت جوزيف
ما يميز عدن عن بقية المدن الجنوبية ومدن المنطقة، هو أنها المدينة الوحيدة التي تعايشت فيها العديد من الأديان، حيث ما زال المسيحيون يقيمون شعائرهم في كنائس عدن، وكذلك الهندوس يتعبدون كل جمعة في معبد الخساف، وتعرضت كنيسة سانت جوزيف في منطقة البادري بكريتر للعبث وتدمير محتوياتها من قبل مليشيا الحوثي وصالح، وكتبوا شعاراتهم بجدران الكنيسة، لم ينته العبث بعد خروجهم، فبعض ضعاف النفوس استمروا في العبث بالكنائس، ومن ضمنها كنيسة سانت جوزيف بكريتر، وكنيسة شيلدن بحافون.
الإمارات تنقذ المعالم الأثرية
لدولة الإمارات العربية بصمات واضحة لا يمكن أن ينكرها أحد، شاهدة كتراث المدينة، فلم تكتفِ دولة الإمارات بترميم المئات من المدارس في عدن التي تضررت بفعل الحرب، بل تعدتها إلى إعادة تأهيل وحداتها الصحية ومستشفيات المدينة للعمل، مروراً بمنظومة الكهرباء، بل وصلت إلى الاهتمام أيضاً بتأهيل وترميم المباني التاريخية كافة والمعالم الأثرية، بدءًا من قلعة صيرة، ومرورًا في المتحف الحربي والمجلس التشريعي وصهاريج الطويلة وغيرها، التي تكفل بها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة.
أرسل تعليقك