بغداد – نجلاء الطائي
دشّن بيت المدى في شارع المتنبي حفلة تأبينية للراحل بدري حسون فريد، حضرها نخبة من الفنانين والمثقفين والإعلاميين، ولم يشهد العديد من النجوم العراقيين، الفترة التي عاشها بدري حسون فريد في المغرب، وكشف الأكاديمي والأستاذ المسرحي د. أحمد شرجي، تفاصيل تلك الفترة، مشيرًا إلى أنّه "عن تجربة الراحل سأتحدث كوني أحد الشهود الاحياء، سأشير إلى نبلهِ وزهده، حيث درّس في معهد الفنون المسرحية في الرباط، ولن يهادن سياسياً او رجل أعمال او رجل سلطة بل عاش متعففاً بكل ثقله المعرفي والأكاديمي"، في المغرب رفض الراحل كل المساعدات، كما أكد شرجي، وقال "إن الراحل كان يعيش في مكان لا يليق بمكانته، وقامته المسرحية، قد يكون محلّ عيشه سبباً بأزمته وانتكاسته، ورفض أن يقابل أي شخص آتٍ من العراق إلا القلة ،ومنهم سامي عبد الحميد، لأنه لا يريد لأحد أن يطلع على وضعه المأساوي المادي وهذا نكران ذات كبير لقامة مسرحية مثله."
تقوّل الكثيرون على المُعلّم حول نقل أموال له من العراق، وهذا كان كذباً وافتراء كما أشار شرجي ذاكراً" أنا أول من كتب عن وضعيته في الرباط وأتشرف بذلك، وتصديت للسباب والتهديد والشتائم لأني فضحت الكاذبين المتقولين على الفنانين"، واحتفى المغاربة بالراحل في سنواته الاخيرة أكثر من احتفائنا نحن طلبته به، وهذا كان تعبيراً عن كرمهم ونبلهم المعروف، ولم يتخلوا عنه، "لأنهم يعرفون لو خرج بدري من المعهد سيموت جوعاً" وهذا ما جاء على لسان أحمد شرجي، فالرحمة للعملاق بدري حسون فريد وعزاؤنا بمنجزه ومكانته وعلمه وطلابه وكتبه التي تركها.
خسرنا بدري حسون فريد، هكذا أشار مُتأسفاً، وكانت كلمته القصيرة التي ألقاها عن الراحل تحمل عنوان " اللقاء والافتراق" ، يذكر المخرج المسرحي سامي عبد الحميد" أننا التقينا لأول مرة عام 1959 عند قبولنا بمعهد الفنون الجميلة، كانت الوجبة المقبولة عدداً محدوداً لا يزيد على 5 أو 6 أشخاص." منذ اللقاء بينهما كان الفراق، حيث أيد فريد الاسلوب القديم في المسرح للراحل حقي الشبلي، أما عبد الحميد فكان يميل لأسلوب إبراهيم جلال، وعندما أراد جلال تأسيس فرقة المسرح الحديث انضم إليه سامي عبد الحميد، في حين عمل بدري حسون فريد مع جعفر السعدي وكوّن فرقة مسرح الطليعة، ويشير عبد الحميد قائلاً "في المعهد تنافسنا في الدراسة والعمل الفني، أقولها بصراحة كنت غيوراً منه حين أسند له حقي الشبلي دور بروتس في مسرحية يوليوس قيصر وأنا أُسند لي دور ثانوي بسبب خلاف بيني وبين أستاذي حقي الشبلي." وفي تلك المراحل عمل العملاقان كثنائي في الاخراج والكتابة لإنتاج اعمال مسرحية كان منها مسرحية الاستاذ كرينوف، وتعاونا لتأليف كتاب عن فن الإخراج المسرحي، إضافة الى الكتاب الشائع بأجزائه الاربعة عن فن الإلقاء.
وأهدى التلميذ صلاح القصب، كلمة إلى أستاذه الفريد الذهبي بدري حسون فريد قائلاً "سموّ مجد يتوهج، هكذا هو ننظر إليه كبروقٍ في مدارات ذهبية، إشراق وصباحات، يا معلمي الفريد كنت قوة تدعو لتشكيل مسرح عراقي تحيطه حضارات العالم الخمس، وكنت تسير فوق الجبال شامخاً كمجد أزلي." وقف الشعر بقصائده ووهج الموسيقى وقمم الجبال إجلالاً للراحل، وأضاف القصب في مرثيته "يقدمون تلك الجبال أكاليل الغار إليك يا سيدي ومعلمي الذهبي لقد زرعت فينا لهيب الكبرياء والإبداع ،ألهمتنا أكثر من ألف شعلة وعشنا معك عصرك الذهبي الذي يشعّ بكل الألوان وأشعلت فينا الحب، فأي شمسٍ ومنار كنت فيها ومازلت خالداً وكنت رمزاً للزمن الذي نبحث عنه وكنت رمزاً لكل تلك الأحلام فأنت جوهرة العصر وخلاصة التأريخ"، ذاكرة التلميذ والأستاذ لم تنفك عن الجلسة، حيث تحدث د. عقيل مهدي يوسف عن معلمه الراحل مستذكراً جلساته المنعزلة بصحبة غيلونه وقال يوسف" بعد أن اصبحنا على مقربةٍ من علمنا أن السرّ وراء تلك الجلسة المنعزلة بصحبة الغليون هي طبخة لعمل مسلسل إذاعي او تلفزيوني جديد، كان بدري حسون فريد في أحاديثه التلفزيونية واضحاً في انتمائه للشعب العراقي بطريقة تجلعنا نستغرب لهذا الحب والحنان بانتمائه للشعب." يُدرك الراحل أنه مُربٍّ وفنان،فيذكر يوسف "أنه كان يربي الطلبة على الصوت، حيث اتبع نظرية لاساك للصوت، ويبدو أن طقوس كربلاء حفزت ذاكرته بالكثير مما يُعنى به صوتياً." رفض الراحل تمثيل أدوارفيها إساءة للوطن او أبناء الوطن، بهذا شُهِدَ له أخلاقياً في تعاملاته وتمثيله، وعلّم تلامذته كيف يوازون بين البعد الصوتي والحركي والنظري معاً، ونقل لهم جماليات المسرح الامريكي، كان رجلاً متواضعاً ،عراقياً حدّ اللعنة.
الصورة الاولى التي ظهرت للراحل بعد غيابه الطويل عن بلاده، نقلها الأكاديمي المسرحي د. أحمد شرجي، وكان الراحل يظهر بها غايةً بالبؤس كما ذكر الأكاديمي الدكتور سعد عزيز عبد الصاحب في شهادته التي أضاف فيها " إن تلك الصورة كانت مأساوية على الإطلاق بالنسبة لقامة مسرحية كبيرة يعيش في غرفة زريبية رطبة وعزّت عليه الحكومة العراقية أن تأتي به عزيزاً كريماً الى بلده"، لقد غاب النسر وانطفأت عيون المدينة وذوت الشمعة التي أشعلها بدري حسون فريد لكي لا يتغلب الظلام، يُشير عبد الصاحب إلى أن الراحل كان" من أول من قدم نظرية لاساك للطلبة، عناصر نظرية لاساك وتطبيقاتها العملية ، وكان صوت بدري حسون المجلجل والمشرق ينبئ عن حضور وبهاء كبير كان له مهابة غريبة"، من جملة ما أشار إليه عبد الصاحب خلال كلمته إلى أن"الراحل لم يكن غافلاً عن المسرحية الشعبية ودلالاتها،وقد كتب وأخرج مسرحية بيت أبو كمال ومسرحية نشيد الارض، واكتشف العديد من الممثلين المسرحيين المهمين وقدمهم أحسن تقديم، هذه الدلالات التي شكلها بدري حسون فريد هي جزء من انطولوجيا واسعة في المسرح العراقي." رحل بدري حسون فريد تاركاً لنا مذكراته المسرحية ومدوناته اليومية عن ثلاثة أجزاء بعنوان "قصتي مع المسرح"
ويستذكر الناقد حسب الله يحيى الراحل بثلاثة مواقف، وهي ذكريات قصيرة مع الراحل ،منها أنّ يحيى حين أراد أن يعدّ نفسه للنقد المسرحي وقدم نفسه ليكون طالباً غير مقبول بشكل رسمي للاكاديمية ولم يرضَ أي أستاذ دخوله صفه وصار يحضر دروس الراحل بدري حسون فريد كضيف، مؤكداً "لقد تعلمت منه الكثير كالخلق العظيم من خلال تعامله مع طلبته وكيف تنبع الجملة من أعماقه إضافة الى التربية والسلوك الذين تجمعا في المادة الدراسية التي قدمها الى طلبته. أما عن الموقفين الآخرين فيقول يحيى"حين أعددت لباب في مجلة الفنون عنوانه "محاكمة مسرحية" في مسرحية للكاتب السوري وليد إخلاص وحين طرحت عليه العديد من الاسئلة الاستفزازية لم يُبدِ غضبه أبداً على العكس، أما الموقف الاخير هو عن نسخ مسرحية عدوّ الشعب الإنكليزية والثانية التي قدمها الراحل التي كانت من أجمل وأهم العروض."
وشهدت الجلسة مداخلات كثيرة، إحداها كانت للناقد محمد أبو خضير قائلاً "هل كان بدري حسون فريد معلماً، شخصيا وعلى تراتبي الدراسي في البكالوريوس والدكتوراه لم أجد الراحل معلماً، ليس بالمعنى القيمي وإنما الفني، لو أحصينا بيلوغرافية الدراسات كماجستير ودكتوراه التي اشتبكت مع الراحل سنجدها شحيحة جداً مردّ ذلك الى الجانب المنضبط او السيمتري او التعليمي والقيمي الذي كبل الراحل، أما على صعيد الصوت فلم يهتم المسرحيون الآخرون بالصوت بالدرجة التي اهتم بها الراحل." وفي مداخلة لتلميذه جبار محيبس الأكاديمي المسرحي يذكر "درسني الراحل بدري حسون فريد وكنت مذهولاً أمامه هكذا قدمنا دروسه الى طلبتنا فهو ظاهرة لم تتكرر، ذو تفرّد عالٍ وكان يرسل محاضراته لنا وهو يتحدث ويقتني الكتب."
أرسل تعليقك