تونس ـ حياة الغانمي
ساهم الانفلات الأمني والفوضى في الجهات الحدودية في انتعاش عمليات التهريب والتجارة الموازية. وتشير المعطيات المتوفرة إلى تورط بعض الأمنيين في التعامل مع المهربين مقابل دفع مبالغ مالية،حيث أن عددا من الأمنيين ينسقون بشكل مباشر مع المهربين فيما البعض الآخر يستغل صفته ليمتهن التهريب على غرار رئيس فرقة الإرشاد الحدودي في بنقردان سابقا الذي أصبح يمتلك سيارات يستغلها في تهريب السجائر والكحول وفق ما أثبتته تحقيقات أمنية أجريت في الغرض.
ومن بين المعلومات الأخرى المتحصل عليها، فإن المهربين في تلك المناطق الحدودية أصبحوا ينشطون علنا ودون خشية المراقبة الأمنية إذ يتنقلون على مرأى من أعوان الأمن وهم ملثمون. وذلك نتيجة التراجع الأمني سيما عند حدوث احتجاجات وتحركات اجتماعية على غرار ما يحدث هذه الأيام. وقد ذكرت مصادر مطلعة أن وزارة الداخلية كانت قد أصدرت إلى وحدات الأمن العمومي والحرس الوطني تقضي بنقلة جميع الأعوان العاملين بمسقط رأسهم إلى محافظات أخرى.
وكشفت مصادر خاصة عن نقل قرابة 4000 عون أمن في حين تعطل النقل لعشرات الأمنيين العاملين بمحافظتي القصرين ومدنين "تحديدا جهة بن قردان" باعتبار وجود شبهات قوية بشأن تواطؤ أو تخاذل البعض منهم في أداء مهامهم مع مهربين وعناصر متشددة، حتى أنهم أحيلوا على مجلس الشرف آنذاك. مع العلم أن السلفيين المتشددين دينيا في بن قردان يسيطرون على شارع "الصرف"هناك وهو المكان الذي تتم فيه تجارة العملة بصفة غير قانونية، والذي وحسب ما أفادت به مصادر خاصة نحو ثلثي العاملين فيه هم سلفيون. وهم لا يسيطرون على سوق الصرف فقط وإنما يسيطرون مناصفة مع شبكات أخرى نافذة على السوق الموازية الأكبر في المنطقة، والمعروف بسوق "ليبيا." والظاهرة السلفيّة ارتبطت هناك حسب مصادر خاصة دائمة بتجارة السلاح التي انتشرت في المدينة بشكل مذهل حتّى كادت تتحوّل إلى شأن عاديّ. ويعتبر التهريب الاقتصاد الرسمي والعمل الذي يعتمد عليه سكان المناطق الحدودية في تونس ومنهم السلفيين.
وكانت "المجموعة الدولية للأزمات" -International Crisis Group- وهي منظمة دولية مقرها بروكسيل، أصدرت تقريرا، بعنوان"تونس : أعمال العنف والتحدي السلفي". أشارت فيه إلى أن الكثير من العناصر السلفية تنشط ضمن الشبكات التجارية الموازية ". والتّجارة الموازية، وبخاصّة منها تجارة الرّصيف وهي ظاهرة قديمة، تفاقمت بعد الثّورة بشكل ملفت للنّظر، حيث تزايد حجم السّلع وتنوّع، لتدخل أسواقنا موّاد جديدة مجهولة المصدر بكميّات كبيرة على غرار أدوية ضدّ القذف السّريع والمنشّطات الجنسيّة وبعض المقوّيات للرّجال، إلى جانب بعض الأدوية الأخرى المصنوعة من الأعشاب والخاصّة بالتّسمين أو التّنحيف، هذا علاوة على بعض الأدوية الخاصّة ب"البروستاتا" أو ضغط الدّم أو ما شابه ذلك، والغريب أن هذه النّوعيّة من السّلع تباع خاصّة أمام المساجد وكأنّ المصلّين بعد إنهاء فريضتهم وواجبهم تجاه الله، يخرجون مباشرة للبحث عن ملذّات الدّنيا.
ويقبل العديد من التونسيين على شراء هذه السلع رغم ما قد تمثّله هذه الأدوية من خطورة على صحّة مستهلكيها، بخاصّة وأنّها تفتقد لأبسط مقوّمات السّلامة الصّحيّة من ناحية عرضها للضّوء وأشعّة الشّمس طيلة اليوم. إذ أن هذه الأدوية قد كتب عليها عدم وضعها في أماكن تتجاوز حرارتها 20 و25 درجة والحال أن ذلك لا يمكن توفيره في الأماكن المفتوحة بالشارع مع حرارة الشّمس الحارقة، كما أن مصنّعيها حذّروا من تعريضها للضّوء وهو أيضا شرط آخر غير متوفّر، الشّيء الذي من شأنه أن يساهم في فساد هذه الموّاد، هذا أن افترضنا سلامة مكوّناتها أصلا. وعن مصدرها فقد لاحظنا أن هذه الأدوية مصنوعة في ليبيا والجزائر ومصر وأيضا في تونس، وهي تقريبا نفس الأدوية الموزّعة لدى عدد كبير من الباعة الملتحين المنتصبين أمام المساجد، ممّا يؤكّد أن هذه الأدوية تدخل إلى تونس بكمّيات كبيرة، وبصفة مسترسلة. والجدير ويُذكر أنه وكلما قامت الشرطة البلدية بحملة ضد البيع الفوضوي، بخاصة المنتصب أمام المساجد إلا وعاد الباعة من الغد للتواجد من جديد.
ويذهب البعض إلى أن قطاع التجارة الموازية قطاع عامل ويساهم في الحد من البطالة والفقر والجريمة ويعتبرونه حلا للعديد من المشاكل التي تواجه الشباب , إلا أن مصدر مطلع بوزارة التجارة والصناعات ، أكد لنا أن هذا القطاع يضر كثيرا بالاقتصاد باعتباره يخلق نوعا من المنافسة غير الشرعية وغير المتكافئة التي تدمر نسيج بعض المؤسسات الصغيرة، باعتبارها نشاطات غير مصرح بها، على عكس الذين يعملون تحت طائلة القانون والذين يخضعون للنظام الجبائي وللقوانين المنظمة للاقتصاد ولشروط الحماية الاجتماعية.
ورغم أنه وفي إطار احتواء هذه الظاهرة والقضاء عليها، قامت وزارة التجارة بسن تشريعات تنص على تجريم التجارة الموازية من جهة وذلك بتغريم صاحبها بخطية مالية تصل إلى 5 آلاف دينار أو بالسجن لمدة تصل إلى السنة. كما قامت بتكثيف فرق المراقبة الاقتصادية ومضاعفة حملات المراقبة والإذن للمصالح المختصة بحجز وإتلاف كل بضاعة يثبت أنها مجهولة المصدر أو مقلدة ، إلا أن المنتصبين فوضويا والذين يدخلون في خانة التجارة الموازية باعتبار أن أغلبهم يبيعون سلع مقلدة بأثمان زهيدة، مازالوا ينتصبون حيث هم في الشوارع وأمام المساجد.
ويعتبر سوق بومنديل وسوق الملاسين بالعاصمة وسوق الجم إضافة إلى تجار الرصيف والأسواق الأسبوعية من أهم الأسواق التي تعتمد على التهريب كمصدر للسلع التي تعرض فيها. ويمكن القول أنه تم تكوين شبكات توريد غير شرعية تمكنت بواسطتها بعض المجموعات النافذة من التحكم في الأسواق وادخال السلع المقلدة إلى الأسواق بأسهل ما يكون. ولئن كانت هذه السلع رغم ما تسببه من مضار للاقتصاد الوطني ورغم ما تحمله من مضار صحية للمواطن لا تجد أية صعوبات أو تضييقات عند مرورها بالديوانة مثلما يقتضيه القانون وكانت نسبة كبيرة منها لا تخضع للمراقبة العادية في الميناء بما أنها تحظى بحماية السلطة الحاكمة سابقا، إلا أنه ورغم انهيار منظومة الفساد التابعة لأصهار المخلوع، فإن السلع مازالت موجودة وتدخل إلى تونس عبر شبكات معروفة.
تدرج ومرونة
وزارة التجارة وأمام الانتقادات العديدة التي توجه لها على خلفية عدم قدرتها على التصدي لظاهرة التجارة الموازية، أكدت أنها تسعى إلى تطبيق القانون بحذافيره، ولن تسمح بدخول مثل هذه السلع وبمثل هذه الطريقة إلى أسواقنا، إلا إذا توفرت فيها الشروط المطلوبة مثل عدم إغراق السوق ( عدم الإضرار بمصالح المصانع الوطنية) وأيضا عدم الإضرار بصحة المواطن. غير أن هذه الاساليب لم تحد من انتشار الظاهرة بالشكل المطلوب. وقد افادتنا مصادر مسؤولة بوزارة التجارة أنه تم في هذا الخصوص تبني استراتيجية تعتمد على التدرج الزمني والمرونة لمقاومة الظاهرة. وترتكز هذه الاستراتيجية على جملة من المحاور من أهمها إنشاء فضاءات لاحتواء البائعين المتجولين وإدماجهم في المسالك المنظمة مع دعوتهم لاستيفاء شروط تعاطي العمل التجاري بالخضوع للتعريف الجبائي، وإخضاعهم أيضا للمراقبة. مع وضع خطة وطنية تعرف بـ "خطة تجفيف المنابع" وهي تقوم على جملة من الاجراءات والتدابير، وتتضمن مراجعة تراتيب اسناد الرموز الديوانية وملائمة الواردات مع الأنشطة المصرح بها. مع تشديد المراقبة المسبقة على مختلف نقاط العبور البرية والبحرية والجوية. وتكثيف المراقبة والتفتيش بالمصانع والمستودعات الحرة ونقاط الدخول للحاويات والمجرورات العابرة للتراب التونسي. و تدعيم نقاط العبور بالوسائل البشرية والمادية اللازمة (تعميم الكشف الآلي للبضائع بتركيز آلات السكانير).
و تدعيم الإجراءات المتعلقة بإدماج متعاطي التجارة الموازية في المسالك المنظمة. وتم ايضا إقرار مراقبة قطاعية والتصدي لظاهرة ترويج قطع الغيار المستعملة بالمسالك الموازية. مع تكثيف المراقبة من طرف مختلف الأجهزة لمصادرة المواد المحجرة والموردة عشوائيا، والمضرة بنسيج الاقتصاد الوطني على غرار الأحذية والمنتجات الجلدية والإطارات المطاطية ومنتجات الصناعات التقليدية.
أرسل تعليقك