بيروت ـ ميشال سماحة
نجح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في إحداث خرق في جدار الأزمة التي نشأت بعد الاجراءات الخليجية بحق لبنان وسط تساؤلات بشأن إمكانية رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تنفيذ شروط الرياض لاصلاح ذات البين بعد تصريحات الوزير المستقيل جورج قرداحي.ربح ميقاتي "المليون" بعدما استعان بصديق لبنان ماكرون، وما ان انتهى الاتصال الثلاثي الذي جمعه بالرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، حتى اطلق العنان لتغريدته المتفائلة باعادة الأمور الى طبيعتها بين لبنان المنكوب والسعودية وبعض الدول الخليجية.
يعلم "حزب الله" ان استقالة الوزير قرداحي ليست المطلب السعودي الوحيد، وهو اكثر العارفين بذلك في هذه المرحلة. الشروط السعودية كثيرة، ابرزها ما صرح به وزير الخارجية الامير فيصل بن فرحان مرارا وتكرارا، وتتلخص بوضع حد لـ"هيمنة حزب الله على لبنان".
الرياض قالتها صراحة انه يجب على الطبقة السياسية اللبنانية ان تضع حدا لنفوذ الحزب، وتطالب الحكومة اللبنانية رغم معرفتها بعجزها، بان تكبح جماح الحزب وتجبره على الانسحاب عسكريا وسياسيا وتقنيا من مناطق الصراع في الاقليم، ومن ابرزها في هذه الفترة اليمن.
ليس في مقدور ميقاتي المشهود له بتدوير الزوايا ان يغير في سياسة "حزب الله" المحلية والاقليمية، فهو الذي جرّب في آذار عام 2013 الضغط على الحزب عبر التلويح باستقالته من رئاسة حكومة خلفت حكومة الرئيس سعد الحريري بموافقة من 8 آذار/ أبريل. وقوى 8 آذار التي سبق لها ان طالبت الرياض بألا يكون العقاب جماعيا وانما لخصم السعودية في لبنان، فهذا الأمر ليس جديدا عندها، اذ سبق للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله ان اعلن في اكثر من مناسبة ان على الرياض وغيرها الا تعاقب الشعب اللبناني بكامل فئاته بسبب غضبها، وان تقتصر اجراءاتها على الحزب حصراً.
بَيد ان رئيس الحكومة يبدو متفائلا بأنه قادر على تسليف الرياض ما عجز عنه الحريري. وهنا تجيب مصادر 8 آذار بأن لا ميقاتي ولا غيره في موقع يسمح له بفرض ارادة خارجية على سياسة اي مكون لبناني، فكيف اذا كان هذا المكون من اكبر الاحزاب؟ لكن المصادر نفسها تنظر بايجابية الى الخرق الذي تمثل بالإتصال الهاتفي الثلاثي لأنها معنية بتخفيف الاجراءات القاسية ضد لبنان في هذه الفترة العصيبة وغير المسبوقة في تاريخ بلد اعتاد شعبه دفع ضرائب التزامات بعض حكامه.
والسؤال: ماذا بعد، وهل ان الرئيس ماكرون قادر على اقناع حليفه في الرياض بطي صفحة قاتمة في تاريخ العلاقات الاخوية بين السعودية ولبنان؟
في الحصيلة لا ميقاتي ولا ماكرون قادران على منح الرياض بطاقة العبور الى التفاوض النووي في فيينا، وإن كان ماكرون قد اعرب عن رغبته في ذلك. فالقرار ليس في يد باريس وانما في يد طهران، والجمهورية الاسلامية ليست في وارد اعطاء المملكة وضعية اكبر وذلك لاسباب عدة. وعليه، فسواء عاد السفير وليد البخاري الى بيروت قريباً أو لم يعد، فلا شيء سيتغير لان الازمة في مكان آخر.
اما الاصلاحات التي وعد ميقاتي بتنفيذها وكرر الامر خلال الاتصال مع ماكرون وبن سلمان، فلن تعرف طريقها الى الحياة ما لم يتم تغيير المحقق العدلي في قضية انفجار المرفأ القاضي طارق البيطار، او على الاقل تنحيته جزئياً عن الملف وترك الامر لمجلس النواب من خلال لجنة تحقيق برلمانية. والامر ليس متاحاً ما دام "التيار الوطني الحر" يرفض التسوية.
وفي المبدأ تمكّن ماكرون من فتح كوّة في جدار الأزمة بين لبنان والسعودية، وأعاد التواصل السعودي مع بيروت عبر الاتصال الثلاثي الذي قد يبقى يتيماً إلى أن تحين لحظة الاختراق الحقيقي في المسار التفاوضي مع المملكة الذي تريده فرنسا حول لبنان، وهو أمر قد يأخذ وقتاً وينتظر تنفيذ بيروت لخطوات عملانية وتحديد وجهة سياسية تمهد لعودة العلاقات اللبنانية - الخليجية وترفع الإجراءات التي اتخذتها السعودية ودول الخليج. ولعل استقالة وزير الاعلام جورج قرداحي وإن سهلّت مهمة ماكرون لكنها لم تحقق أي خرق في حلحلة الازمة الداخلية، فما لم تنعكس المبادرة الفرنسية انفراجات سياسية داخلية في إعادة إحياء الحكومة مثلاً، لن تكون عودة العلاقات الدبلوماسية بين لبنان والسعودية وبقية دول الخليج إلى طبيعتها وكذلك رفع العقوبات وإعادة إرسال السفراء والسماح بعودة السفراء اللبنانيين إلى العواصم الخليجية.
حتى الآن، لا مؤشرات تدل على أن الأمور ستعود إلى سابق عهدها بين الدول الخليجية ولبنان، والتقدم مرهون بتوسعة مروحة الاتصالات تطبيقاً للمبادرة، وأولها وفق مصادر دبلوماسية أن يتوقف التصعيد من الجانب اللبناني ضد السعودية نهائياً، خصوصاً من طرف "حزب الله" وإعلان موقف سياسي لبناني رسمي لا يقتصر على الكلام عن أهمية العلاقات، بل بالتزام لبنان عدم التدخل في الشؤون الخليجية، وما يرتبط به من في سياق التهدئة والعمل على حل الملفات العالقة، وتضيف أنه من المبكر الحديث عن زيارة رسمية لبنانية إلى السعودية، خصوصاً لرئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي. لكن إذا حصلت التهدئة والتزم لبنان تعهداته، يمكن أن تعود السعودية إلى جانب فرنسا ودول أخرى إلى تقديم الدعم الإنساني وتخصيص الجيش اللبناني بحصة استثنائية منه.
البيان الفرنسي ـ السعودي أكد ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإجراء إصلاحات شاملة، لا سيما الالتزام باتفاق الطائف، وهي رسالة موجهة إلى النفوذ الإيراني في لبنان والهيمنة التي يمثلها "حزب الله" وتحدد السقف الذي على أساسه قد تُستانف العلاقات الخليجية مع لبنان. وتنقل مصادر عن جهات دبلوماسية أن ماكرون كان واضحاً في كلامه وتشير إلى أنه أبلغ السعوديين أن عقوباتهم وإجراءاتهم التي تستهدف لبنان كله تؤدي إلى نتائج عكسية، خصوصاً وأن "حزب الله" لديه بنيته المستقلة عن الدولة، ولا بد من التفاهم والحوار ومد يد المساعدة من أجل تحقيق التوازن واستعادة مؤسسات الدولة، وهي وحدها يمكنها أن تسحب لبنان من دائرة نفوذ إيران وسيطرة أذرعها عليه.
يرتبط أيضاً تعديل السياسة السعودية تجاه لبنان بعد المبادرة الفرنسية بمصير التفاوض النووي في فيينا وبتطورات المنطقة. تقول مصادر سياسية، ما إن انطلقت مفاوضات فيينا النووية حتى هدأت الجبهات الساخنة في المنطقة، خصوصاً المناطق التي تعتبر تحت التأثير الإيراني. فإلى جانب ملف التفاوض النووي، يُتوقع إذا تقدم على صعيد البنود الخلافية وتذليل العقد بين الولايات المتحدة وإيران واستطراداً القوى الدولية، أن يكون هناك نقاش في ملفات المنطقة، لا سيما النفوذ فيها. فالوصول إلى تفاهم جديد حول الملف النووي، إن كان بالعودة إلى الاتفاق السابق أو بإدخال تعديلات عليه، سينعكس على أوضاع المنطقة، بدءاً من ملف اليمن، إلى حل الأزمة العراقية لجهة تشكيل الحكومة الجديدة وفق التوازنات التي أنتجتها الانتخابات الأخيرة، أو تقاسم الهيمنة والنفوذ. لكن لبنان يشكل النقطة الاخيرة، إذ أن ترتيب الملفات كلها ستنعكس على وضعه، باعتباره مساحة نفوذ إيراني لا يتخلى عنها، وهو في الاساس يعاني من تعقيدات سياسية وانهيار معالم الدولة. ولذا كان إصرار السعودية على إدراج بند "ضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية، وألا يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدرات"، وهي نقاط تعتبرها شرطاً أساسياً للعودة إلى المربع الأول في ما يتعلق بالوضع اللبناني.
كل ذلك يعني وفق المصادر السياسية أن استقالة قرداحي من الحكومة لم تحقق أي خرق على صعيد الأزمة الداخلية. السعودية لن تدفع الثمن الذي يريده لبنان إلا وفق شروطها. وما تسعى السعودية إلى اكتسابه لن تحصل عليه باستقالته، على الرغم من أنها سهّلت المهمة الفرنسية وفتحت كوة في جدار البحث في الأزمة. لكن السعودية يبدو أنها قطعت الطريق على استغلال الاستقالة لتحقيق مكاسب فرقاء لبنانيين على حساب آخرين. فالرئيس ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل حاولا المراكمة على الاستقالة لتسليف مواقف للسعودية ودول الخليج، وان كانا أبقيا على خطوط التواصل والعلاقة مع "حزب الله". وبسبب الصراع القائم لا يبدو حتى الآن أن هناك مخرجاً لإعادة الحكومة وحلّ مشكلة التحقيق ومصير القاضي طارق البيطار.
في المعضلة الداخلية يبدو أن الامور بحاجة الى مزيد من المفاوضات، لإقرار حصر التحقيق مع الرؤساء والنواب والوزراء بالمجلس الأعلى لمحاكمتهم، في جلسة مجلس النواب، وهذا الامر سيكون له أثمان سياسية متبادلة بين الفرقاء. وقد تكون التسوية بحسم البحث في الحلّ القضائي، مقابل القبول بالطعن المقدم حول قانون الانتخابات من العونيين.
وفي انتظار ترجمة المبادرة الفرنسية مع السعودية، يبقى لبنان ساحة نفوذ إيرانية، فهو الحلقة الأضعف بين الدول أو مناطق الصراع الإقليمي والدولي. ففي مجال النفوذ الذي يقاس بمقدار الداخل، تبدو الهيمنة الإيرانية واضحة وفقاً لموازين القوى القائمة. إيران استثمرت في "حزب الله" وباتت أكثر قوة من الآخرين، طالما ذراعها المسلحة التي ترفع شعار "المقاومة" واستطراداً الشيعية السياسية متحكمة بالمسار اللبناني العام ومتقدمة على الطوائف الاخرى التي تغالب أو المذهبيات التي تسعى إلى إعادة ترتيب أوضاعها وبناء وزن أهلي لها في التركيب اللبناني الحالي. وما نشهده من صراعات وقدرة على التعطيل يدل على مساحة نفوذ "حزب الله".
أي انفراج سيحدث في العلاقات مع دول الخليج مرتبط وفق المصادر بكيفية استخدام طهران فائض قوتها في الداخل اللبناني. وعليه لا يمكن الحل من دون كلمة حاسمة للإيرانيين، بما فيها الملفات العالقة داخلياً ومنها الحكومة والقضاء وتحقيق المرفأ وأخرى مرتبطة بالصراع الإقليمي.
قد يهمك ايضا:
قرارات جديدة لمواجهة كورونا في لبنان وحظر تجوّل ليليّ مع بداية شهر الأعياد
لبنان يُطلق شبكة أمان اجتماعية لدعم الأسر الأكثر فقراً
أرسل تعليقك