بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
في مثل هذا اليوم قبل تسعةٍ وثلاثين عاماً، وتحديداً يوم الحادي عشر من مارس عام 1978، كان الفلسطينيون على موعدٍ مع فجرٍ جديدٍ وصبحٍ آخر، وقدرٍ يكتب بمدادٍ من الدم وآياتٍ من العز والفخار، فاجأ الإسرائيليين وأربكهم، وأقظ مضاجعهم وأرعب مستوطنيهم، وساق جنودهم كالقطيع، وقتل سبعةً وثلاثين منهم كالخراف، وترك في نفوسهم أثراً غائراً ما زال إلى اليوم موجوداً، وندبةً في جبينهم مع الأيام لا تدمل، فكان يوماً أسوداً في حياتهم يذكرونه ولا ينسونه، ويكتبون عنه بمرارةٍ ويوصفون أحداثه بألمٍ.
اليوم يتذكر الفلسطينيون جميعاً ابنتهم البطلة، ومقاومتهم الأولى، وشرارة النضى الأبية، وشابتهم الندية الفتية، التي ضحت بشبابها من أجل الوطن، واستغنت عن نضارتها وأحلام صباها فداءً لفلسطين وأهلها، الذين يعترفون بدورها ويقدرون مقاومتها، فيوفون لها دوماً بالنذر، ويلتزمون تجاهها بالعهد، ويحيون ذكراها على مدى الزمن، وحق على الأجيال الجديدة أن يعرفوا من هي دلال المغربي، وما الذي قامت به، وبماذا ضحت لتبقى فلسطين، فهذه امرأةٌ اسمها في الذاكرة منقوش، وفعلها في العقل محفوظ، وتضحيتها في القلب مكنونة، لن ينساها الفلسطينيون، وسيبقون يذكرونها لأجيالهم، ويعلمونها لأبنائهم، ويحفظون صورتها في سفر حياتهم وصفحات مقاومتهم، فهي محل فخرٍ وموضع اعتزاز.
إنها دلال المغربي المرأة الفلسطينية الخالد اسمها، العظيم عملها، الباقي أثرها، العسكرية الأولى والفدائية الكبيرة، التي تجاوزت الرتب، وانتصرت على النخب، وحققت ما عجز عنه الآخرون، فارتقت إلى العلا علماً، وسمت في السماء روحاً، وتخلد بين البشر اسمها رمزاً، وقد صدمت العدو عندما عرف أنها قائدة المجموعة، وأنها تترأس أكثر من عشرة من الفدائيين، الذين يأتمرون بأمرها وينفذون تعليماتها، فأدركوا أنهم في مواجهةٍ جديدةٍ، وفي معركةٍ من طرازٍ آخر، تقودها وتفرضها امرأة فلسطينية، حديدية في إرادتها، وصلبة في مواجهتها، وعنيدة في مواقفها، وحادة في قراراتها، تتقدم ولا تتقهقر، وتطلق النار ولا تتردد، وتنفذ وعيدها ولا تتأخر.
نحيي اليوم ذكراها وفاءً لها وتقديراً لروحها، وعهداً لإخوانها الشهداء، أن القضية الفلسطينية التي ضحوا في سبيلها ستبقى قضية الأمة النقية الشريفة، ولن يتخلى عنها أبناؤها، ولن يستكثروا في سبيلها دماءهم ولا أرواحهم، ومع دلال نتذكر مجموعتها الفدائية، والشهداء الأحد عشر الذين قضوا معها أثناء الاشتباك المسلح مع جيش العدو المدعوم بطائرات الهيلوكبتر، والدبابات والعربات المصفحة، إلا أن دلال ومجموعتها لم يستلموا أمام جحافل العدو، ولم ترهبهم غزارة نيرانه، ولا كثرة عرباته ودباباته، بل واصلت اشتباكها معهم حتى آخر طلقة رصاصٍ كانت بحوزتهم، حيث أمر أيهود باراك الذي كان يقود العملية جنوده بإطلاق النار على أفراد المجموعة كلها، فاستشهد واقفاً أحد عشر فدائياً، كلهم كدلال قوةً وعزيمةً، وإرادةً ويقيناً.
اليوم يا دلال باتت قدرتنا على الإنزال أكبر، وإمكانياتنا على الاقتحام أعظم، وعزمنا أشد وإرادتنا أمضى، وباتت مقاومتنا الفلسطينية والعربية تخطط لتحرير الشمال والجنوب معاً، وإنزال قواتٍ عسكرية على الشواطئ وخلف خطوط النار، وتهديد منشآت العدو ومقراته، ومصالحه ومرافقه، ومراكزه الحساسة ومواقعه المحصنة، ورجالنا لا يقلون عنك غيرةً وحميةً، وحماسةً واندفاعاً، وربما منك يتعلمون ولك يقلدون، فهم يتوقون إلى اليوم الذي ينفذون فيه عملياتهم الفدائية في حيفا ويافا وتل أبيب واللد والرملة، كي يحققوا الحلم الذي بدأت، ويستكملوا الوعد الذي قطعت، وينتقموا من العدو الذي هاجمت وقاومت.
حقد العدو الإسرائيلي وما زال على قائدة المجموعة ومسؤولة العملية، فبالغوا في قتلها إذ مثلوا بجثتها، وتعمدوا التقاط الصور لها، واقترب منها أيهود بارك قائد الفرقة الإسرائيلية، وبلؤمٍ وحقدٍ كبيرين شد شعرها متفحصاً وجهها، ومتأكداً من هويتها، ومتفرساً في هيأتها، مستغرباً شجاعتها ومذهولاً من قدرتها، فهذه هي الفلسطينية البطلة، الأنثى التي بزت الرجال، وصرعت الأعداء، واخترقت الحدود، واحتجزت المستوطنين، وقادت الحافلات، واشتبكت مع العديد من الجنود، الذين استدعوا الجيش لنصرتهم، والطائرات لمساندتهم، وأقبل قادة أركان جيشهم مع باراك يقودون المعركة، ويرقبونها عن قربٍ، وقد أربكتهم الصدمة، وهالتهم المفاجأة، وأفجعتهم الخاتمة، إذ تمكنت المجموعة الفدائية من قتل العديد منهم، وأرعبت الباقين من شعبهم.
ما زال العدو الإسرائيلي الذي أثخنتِ جراحه يا دلال يحتفظ بجثمانك الطاهر، ويصر على إخفائه والإبقاء عليه عنده، ويقصد بذلك إيذاءك وإيذاءنا، إذ رفض تسليمه للمقاومة اللبنانية، التي أبرم باسمها حزب الله صفقةً كبيرة، تضمنت استعادة جثمان دلال، إلا أن العدو قد خدع المفاوضين، وسلمهم جثماناً آخر تبين بعض فحوصات الحمض النووي أنه لا يعود لدلال، وأن جثمانها الطاهر ما زال مدفوناً في ثرى فلسطين، وكأنه يتحدى العدو ويأبى مغادرة الوطن والتخلي عن التراب، وإن كان حقد العدو هو الذي حال دون تسليم جثمانها، إلا أن في بقائها رسالة، وفي الاحتفاظ بها في أرض فلسطين أسمى حكاية، فقد سكنت فلسطين التي سكنتها، وعشقت ترابها وأحبتها، وامتزجت فيها حتى صارت منها.
رغم مضي أربعة عقود على عملية دلال واستشهادها، بصورتها الفتية التي كانت عليها، وبملابسها العسكرية التي كانت تزينها، وبإطلالتها الفلسطينية البهية الدالة على هويتها، إلا أنها ما زالت حاضرة حتى اليوم بيننا، فهي في كل أغنيةٍ وأهزوجةٍ، وتتردد في كل أنشودةٍ وموال، وترفع صورتها في كل مهرجانٍ واحتفالٍ، ويطلق اسمها على الشوارع والميادين، وعلى المدارس والقاعات، وعلى الهيئات والمؤسسات، فتبدو وكأنها حاضرةً بيننا لم تغب، وتعيش فينا ولم تقتل، وتقاتل معنا ولم تتعب، وتحمل على كتفها بندقيتها ولم تسقط، تلك هي دلال المغربي في ذكرى ارتقائها السنوية، وعروج روحها الطاهرة إلى الله بارئها، فسلام الله عليها في الخالدين، وطوبى لها محياها وشهادتها إلى يوم الدين.
أرسل تعليقك