يتألف ما يُعرف بـ"كتاب الأغاني" في الصين، من مجموعةٍ من "القصائد ذات الطابع الشعبي"، التي يُقال إنها جُمِعتْ من أزقة البلاد وحقولها، وبحسب الكاتب مارتِن كيرن، فقد كان لهذه الأشعار أغراضٌ عملية، إذ مثّلت وسيلةً للهجاء وأداةً للتواصل الدبلوماسي وطريقةً لغرس التعاليم والقيم الأخلاقية كذلك.
وفي تقرير لموقع bbc عربي منذ العصور القديمة، لم يحظ أي كتاب بالحضور الذي يتمتع به "كتاب الأغاني" الصيني، الذي وصفه أحد النقاد بأنه "عملٌ كلاسيكيٌ لفؤادٍ الإنسان ولُبه"، ويمثل هذا العمل أول مجموعةٍ للمختارات الشعرية في الصين، بل إن الفيلسوف الصيني الشهير كونفوشيوس هو من جمع - كما يُقال - الـ "300 أغنية"، وهو اسم أُطلِقَ على الكتاب في وقتٍ مبكرٍ، وذلك من أصل 3000 قصيدة، "إذ حذف التكرارات، واختار فقط ما يمكن أن يتماشى مع مبادئ الطقوس" التي كان يتبعها هذا الرجل.
وبحلول نهاية عهد أسرة سلالة "هان الغربية" الحاكمة (202 قبل الميلاد - 9 ميلادية)، كان هناك ما لا يقل عن أربع مدارس تُعنى بدراسة هذه الأشعار، في ما يُعرف بـ"الأكاديمية الامبراطورية" التي كانت قائمة في الصين في ذلك الزمن البعيد، وهو ما وفر مجموعةً من التفسيرات والشروحات المختلفة لكل أغنية.
وعلى الشاكلة نفسها التي ترسخت بها ملاحم الشاعر الإغريقي الأسطوري هوميروس في الذهن الغربي، لعب "كتاب الأغاني" الصيني دوراً على أصعدةٍ تتجاوز المجال الأدبي بكثير، وخلّف تأثيراً لا يُمحى على الحضارة الصينية.
فقد كانت للأشعار المدونة فيه تأثيرٌ على التعليم والسياسة والحياة الاجتماعية في العصور القديمة. كما جرى الاستعانة بمقتطفاتٍ من تلك القصائد وقراءتها كتعبيرات اتصالية مُشفرة في المراسلات الدبلوماسية، وكذلك استحضارها كبرهان تُدحض به حججٌ فلسفية، بجانب قراءتها كتعليقاتٍ - ساخرةٍ في أغلب الأحيان - على وقائع وملابساتٍ تاريخية.
وعلاوة على كل ذلك، تم تدريس تلك المختارات الشعرية بهدف التهذيب والتنوير الأخلاقي. ولم تتوقف تأثيرات الكتاب في المجتمع الصيني منذ أن ظهر إلى الوجود، سواءٌ عبر مضامين القصائد الموجودة فيه، أو النمط الذي تتخذه هذه الأشعار.
وظهرت المختارات الشعرية - التي يُعتقد على نطاقٍ واسع أنها تلك التي يتضمنها "كتاب الأغاني" - مما يُعرف بـ"نمط ماو"، وهو اسم واحدة من المدارس الأربع الأولى التي ظهرت وعُنيت بتلك الأشعار، وهي مُقسّمة إلى أربعة أقسام، يتضمن أولها 160 قصيدة تُعرف باسم "النسائم"، أما الثاني فيضم 74 قصيدة يُطلق عليها اسم "ترانيم البلاط الصغرى"، فيما يحتوي الثالث على 31 سُميت "ترانيم البلاط الكبرى"، أما الرابع فمؤلف من 40 قصيدة اصطُلِح على أن تُعرف بـ"المدائح".
ومن بين أشعار القسم الأخير، توجد 31 قصيدة تُعرف باسم "مدائح تشو"، وتعتبر الجزء الأقدم من مجموعة المختارات الشعرية هذه. ويُقال إن هذه القصائد تعود إلى السنوات الأولى لحكم سلالة تشو الغربية (1046 - 771 قبل الميلاد).
وقد كانت هذه الترانيم، التي تتسم جميعها بالقِصر، تُؤدى خلال طقوس تقديم القرابين للأسلاف الملكيين لسلالة "تشو". وكانت العروض المتنوعة التي تُقدم في هذا الإطار، تشمل تقديم قرابين ذات روائح نفاذة من اللحوم والحبوب والخمور، بجانب عزف موسيقى ذات طابع طقوسي، عبر دق الطبول وقرع الأجراس، واستخدام آلات النفخ والآلات الوترية، فضلاً عن أداء استعراضاتٍ راقصةٍ، يُعاد من خلالها تمثيل الفتوحات العسكرية لسلالة "تشانغ" التي كانت تُحكم في فترة سابقة لذلك.
وتضمنت تلك العروض أيضاً إنشاد ترانيم رسمية مهيبة، يُثني من خلالها الملك "تشو" على أسلافه، ويطلب منهم البركة في المقابل. باختصار، وُلِدَ الشعر الصيني في غمار طقوسٍ دينية.
وبالتبعية، ساعدت "المدائح" من خلال الطقوس المصاحبة لها، في ضبط النظام الاجتماعي في الصين. فقد شكَّل احترام "إرادة السماء" عنصراً مهماً لأدبيات السياسة الصينية القديمة، وكان بوسع "كتاب الأغاني" تعزيز حكم سلالة "تشو"، عبر ترسيخه لهذا المفهوم وفرضه.
وعلى عكس "المدائح"، كانت الكثير من القصائد المنتمية لقسم "ترانيم البلاط" أكثر طولاً وتتضمن سردياتٍ مطولةً يُحتفى فيها بـ"تشو" ويُمجد. ومثلت هذه الأشعار النص الرئيسي الذي يؤرخ للذاكرة السياسية والثقافية لهذه السلالة الحاكمة. على الجانب الآخر، اتسمت "الترانيم" بالمباشرة مثلها مثل "المدائح" الأقدم زمناً، ولم يكن هناك خلاف بشأن القصة والمفاهيم التي تسعى إلى نقلهما إلى سامعيها.
لكن الأمر كان مختلفاً مع القصائد المعروفة باسم "نسائم الولايات"، والتي كانت مُخصصة لخمسة عشر إقليماً مختلفاً، تقع كلها تقريباً على طول "النهر الأصفر" الذي يمر عبر مناطق شمال الصين. فقد كانت تلك الأشعار أكثر تعقيداً، ولم تتضمن أيٌ منها سردياتٍ تاريخية من أي نوع.
وبلغ الأمر حد أن بعضها كان يسير الفهم في الظاهر على نحوٍ مخادع، كأن تبدو مجرد قصيدةٍ تتحدث عن الرغبة في شيءٍ ما، أو عن فراق عاشقين عند الفجر، أو تتناول احتجاجاً لمزارعٍ ضد مسؤولين فاسدين، أو تتضمن مرثيةً على لسان جنديٍ يجتاحه الشوق للوطن خلال وجوده في حملة عسكرية في الخارج، أو حتى تروي قصة زوجته التي تنتظره دون جدوى. وفي تلك الأشعار، تجد حالة المرء الوجدانية والفكرية أكبر مساحة ممكنة للتعبير عن نفسها، وفيها أيضاً تتنوع التفسيرات المحتملة للقصائد والأبيات.
من جهة أخرى، حاول ما يُعرف بـ"حركة الرابع من مايو 1919"، وهي عبارةٌ عن احتجاجات سياسية وثقافية مناوئة للنزعة الامبراطورية أشعلها الطلاب، بناء إرثٍ أدبيٍ وطنيٍ جديدٍ على أنقاض امبراطورية كانت قد انهارت أخيراً بعدما ظلت قائمةً لألفي عام.
وهنا أصبحت القصائد التي كانت تُعرف باسم "النسائم" ذات طابع جديدٍ ومختلفٍ تماماً، إذ صارت عبارةً عن أغنياتٍ شعبيةٍ تبدو بساطتها الساحرة وأسلوبها الذي يعتمد على تكرار المقاطع وكأنهما ينبعان مباشرة من أفئدة عامة الناس.
وتُشكّلُ "كوانجيو"، والتي تُعرف بأنها أغنية أعراسٍ مرحة، أشهر وأقدم الأغنيات المنتمية لهذه الفئة. ولكن هل كانت كذلك على الدوام؟ في سياق محاولات الإجابة على هذا السؤال سنجد أن فيلسوفاً وكاتب أغانٍ وسياسياً صينياً يُدعى "تشو شي" (1130 - 1200) كان قد نادى بضرورة العودة إلى إمعان النظر في الكلمات الأصلية لمثل هذه القصائد، للتعرف على الهدف الحقيقي منها، في خطوةٍ فعلية على صعيد الاستكشاف والتنقيب عن المعاني على الصعيد الأدبي.
جاء ذلك بعدما دُفِنت هذه الكلمات تحت طبقة تلو أخرى من التعليقات المتعمقة، التي صدرت عن معلقين عاشوا في عهد سلالة "هان" الحاكمة والحقب اللاحقة لذلك.
وهنا نجد أن ثمة دليلاً يبرهن على أن الشعراء في الحقبة الإمبراطورية للصين كانوا يعرفون - بعكس الباحثين على سبيل المثال - كيف يُقَدِرون قيمة "النسائم" على ما هي عليه ومن حيث ظاهرها، ويستحضرون صورها المُفعمة بالحيوية المُستقاة من الطبيعة، جنباً إلى جنب مع التعبيرات التي اسْتُخْدِمتْ فيها لتعكس مشاعر الحب والرغبة والألم.
وكان من حسن طالع تلك المختارات الشعرية، أنها نالت ما لم ينله أي نصٍ مكتوبٍ آخر يعود إلى العصور القديمة في الصين، إذ أنها حظيت بالتبجيل والإعزاز، ومن ثم ظلت باقية في أذهان الصينيين، في إطار شكلين متوازيين؛ أحدهما يتمثل في التعليقات المتعمقة ونظام الاختبارات الذي كان سائداً في العصر الإمبراطوري، أما الآخر ففي إطار الذاكرة الشعرية والإشارات والتلميحات.
ومن اللافت للنظر، أنه لا يوجد أي مصدر قديم يُحدثنا عن "النسائم" بوصفها مجرد شعرٍ شعبيٍ بريء النية وسليم الطوية. فالأساطير التي تم تداولها في السنوات الأولى للعصر الإمبراطوري، تشير إلى وجود مسؤولين في البلاط الملكي يتولون "جمع" هذه القصائد من "الحارات والأزقة"، ليُعْلِموا الحاكم بالظروف السائدة في المجتمع، وما يختلج في صدور عامة الناس من مشاعر.
ويُقال إنه جرى تحويلها بعد ذلك فقط إلى أعمالٍ شعريةٍ غنائيةٍ تُؤدى في بلاط الأباطرة. رغم ذلك، لا يوجد ما يعزز مثل هذا الاعتقاد التقي الورع في الأصل الشعبي لهذه الأشعار. فعلى العكس من ذلك، تفيد كل الإشارات إلى "كتاب الأغاني" وجميع الاقتباسات المأخوذة منه - سواءٌ قبل تأسيس الإمبراطورية عام 221 قبل الميلاد أو بعد ذلك - بأنه كان جزءاً من المنهج التعليمي المخصص للنخبة، قبل أن تتضافر وتتماسك بالتدريج لتأخذ شكل الكلاسيكيات الخمس الجامعة للفلسفة الكونفوشيوسية في الصين الإمبراطورية.
وفي إطار هذا الشكل، كان يمكن أن تكون هناك معانٍ متباينة ومتنوعة لكل بيت في القصيدة. فبينما اعتبر معلقٌ عاش في عهد سلالة "هان" أن أغنية "كوانجيو" ليست سوى إشادة بمناقب وفضائل واستقامة الملك وين (1099 - 1050 قبل الميلاد) وقرينته، رأى آخر أنها ليست سوى انتقادٍ للملك كانغ (1005 - 978 قبل الميلاد).
وبجانب هذا وذاك، أشارت الكثير من المخطوطات التي اكتُشِفتْ مؤخراً في المقابر، وكُتِبتْ على الحرير وسيقان الخيزران، إلى اتجاهٍ مختلف. فقد أفادت هذه المخطوطات - التي تعود للفترة ما بين القرنين الرابع والثاني قبل الميلاد - بأن هذا العمل استخدم مفرداتٍ تعبر عن الرغبة والجاذبية الجنسيتيْن، من أجل إظهار الاحتشام والاستقامة وإبرازهما، بهدف تعزيز التأمل والتفكير الأخلاقييْن.
وهكذا فمن خلال الشعر والطقوس الدينية والموسيقي، سعى التعليم الكونفوشيوسي إلى أن يُرسخ في نفوس طلابه وأذهانهم القيم واللطائف الأخلاقية، التي يمكن لهم استظهارها وحفظها بسهولة، نظراً لكونها تأخذ القالب الغنائي.
وقد ساعد "كتاب الأغاني" على وضع قواعد للسلوك. فقد كانت أشعاره - خلافاً للنمط الغربي في هذا الصدد - مجهولة المؤلف إلى حدٍ كبير، وبسيطةً على ما يبدو. مع ذلك، فقد كان لهذه الأشعار - تحت هذا السطح الظاهري - مستوياتٌ متعددة يمكن فهمها بأشكالٍ مختلفة، وهو ما يجعلها حتى اليوم - وخاصة "النسائم" منها - تتحدث بأصواتٍ متباينةٍ، أو بعبارةٍ أخرى، يختلف تفسيرها ما بين شخصٍ وآخر.
وهكذا ففي ظل حالة الغموض الساحر هذه، نجت تلك المختارات الشعرية من كل المحاولات التي استهدفت اختزال رسائلها ومعانيها المتعددة، وحصرها في رسالةٍ واحدة أو معنىً واحد، وهو ما كان سيقود بالتبعية إلى الحط من قدرها وقيمتها.
فلنطالع هنا ما ورد عن تلك "الأغاني" على لسان كونفوشيوس في تعاليمه المشهورة، من أنه يمكن إجمالها في عبارةٍ واضحة ألا وهي "أنها تخلو من أي أفكارٍ صعبة المراس!"، فبواسطتها يتسنى للمرء أن "يُلْهِمَ ويُلاحظ ويتضافر (مع غيره) ويعبر عن مشاعر استيائه أو غضبه". كما يمكن له أن يتعلم "أسماء الأسماك والطيور والوحوش والنباتات والأشجار"، وبأعدادٍ كبيرة للغاية أيضاً. ويضيف كونفوشيوس في تعاليمه أن من يفشل في فهم تلك القصائد واستيعابها جيداً "لن يجد في جعبته ما يُمَكِنُهُ من التعبير عن نفسه"، وسيصبح أشبه برجلٍ "يقف مُولياً وجهه مباشرةً إلى الجدار".
لكن تلك التعاليم تحذر من اكتفاء المرء بالقدرة على إلقاء كل "القصائد الثلاثمئة" وحفظها، دون أن تكون لديه المقدرة على تطبيق ما فيها بشكلٍ خلاق ومرنٍ وفقاً لسياق المواقف التي يمر بها، متساءلةً: "ما نفعها إذن لهؤلاء في هذه الحالة؟".
باختصار، يمكن القول إن الأمر لم يتعلق قط بما الذي كانت هذه القصائد - وكلها مجهولة المؤلف - تعنيه من الأصل، أو المصدر والمكان اللذين جاءت منهما، وإنما تمحور دائماً حول شيءٍ آخر؛ ألا وهو الكيفية التي يمكنك من خلالها أن تجعلها تعني شيئاً جديداً.
أرسل تعليقك