موازاة مع الجهود الدبلوماسية الرامية لتغليب الحلول السياسية لأزمات المنطقة يستنفر الجيش الجزائري وحداته العسكرية على الشريط الحدودي تحسبا للسيناريوهات السيئة على الأرض، ليكون بذلك خيار الدفاع عن سيادة الإقليم البري والجوي خطا موازيا للجهود التي تبذلها الدبلوماسية الجزائرية لإرساء حلول سياسية شاملة في كل من ليبيا ومنطقة الساحل، وخطة بديلة لمواجهة أيّ انزلاق على الأرض.
وحمل خطاب نائب وزير الدفاع الجزائري وقائد أركان الجيش الجنرال أحمد قايد صالح، أمام ضباط وجنود الناحية العسكرية السادسة بمحافظة تمنراست في أقصى الحدود الجنوبية، مفردات تصعيدية غير مسبوقة، تعكس تواجد الجيش الجزائري على أهبة الاستعداد لأسوأ السيناريوهات الميدانية على الشريط الحدودي.
وبعيدا عن مهام الدفاع عن السيادة الإقليمية وحماية البلاد من الأخطار الأمنية والتهديدات الإرهابية، التي دأبت قيادة الجيش الجزائري على ترديدها خلال السنوات الأخيرة، لشحن همم وحداتها المرابطة على الحدود البرية الممتدة على أكثر من ستة آلاف كيلومتر، للتأكيد على محورية الدور الجزائري في المنطقة، خاصة أمام فشل حكومات المنطقة في ضبط الأوضاع الأمنية ومحاربة تنامي التنظيمات الجهادية.
وتحدث الجنرال أحمد قايد صالح، لأول مرة عما أسماه بـ”حفظ الهيبة الدولية والإقليمية في محيط متوتر”، ما يشير إلى سقف مرتفع لدور الجيش الجزائري في المنطقة، بعد ظهور ملامح تدخّل دولي وإقليمي عسكري في ليبيا والساحل الصحراوي، والتعبير عن استعداده للمرور للخطة البديلة في حال فشل الجهود الدبلوماسية في حلحلة أزمات المنطقة، أو ميلان الكفة لصالح التسوية العسكرية.
ولم يتضح المغزى من دعوة “حفظ الهيبة الدولية والإقليمية في محيط متوتر”، مع الالتزام الذي يبديه الجيش الجزائري مع مبدأ دستوري ثابت في البلاد يحظر عليه الانتقال إلى خارج حدود دولته إلا في المهام الإنسانية، المقررة من طرف المؤسسات الدولية.
وكانت قيادة الجيش الجزائري قد اعتذرت عن تلبية دعوات عديدة للمشاركة في بعض المهام العسكرية، كما هو الشأن بالنسبة إلى رفضها المشاركة في التحالف العربي لاستعادة الشرعية في اليمن، والاكتفاء بالتعاون الاستعلاماتي والتنسيق الميداني مع جيوش دول الجوار في محاربة جيوب الإرهاب على الحدود مع تونس.
وباستثناء مشاركة الجيش الجزائري في الحروب العربية ضد إسرائيل في 1967 و1973 لم تغادر وحداته تراب البلاد إلى أيّ مهمة عسكرية، امتثالا لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، ولم يتحرك خارج الحدود حتى مع استهداف بعض المصالح الجزائرية في طرابلس وباماكو، بعد تفجير السفارة واختطاف وفد دبلوماسي في قنصلية قاو العام 2012.
وفي الفترة الأخيرة كثف قائد أركان الجيش الجزائري من زياراته التفقدية للنواحي العسكرية الحدودية مع كل من ليبيا ومالي والنيجر، كما أشرف على مناورات عسكرية بالمنطقة الحدودية مع ليبيا خاصة بعد قيام الطيران المصري بقصف مدن ليبية منذ 26 مايو الماضي واستمرت لعدة أيام، وما أثاره ذلك من قلق جزائري من تصعيد التوتر الأمني في المنطقة.
ودفعت الجزائر خلال السنوات الأخيرة بعشرات الآلاف من أفراد الجيش إلى حدودها الجنوبية مع مالي والنيجر وليبيا في الجنوب الشرقي لمواجهة ما تسميه تسلل الإرهابيين وتهريب السلاح من هذه الدول التي تعيش فوضى أمنية.
وتعلن وزارة الدفاع باستمرار عن عمليات حجز أسلحة مهربة عبر الحدود البرية نحو البلاد، إلى جانب توقيف تسلل من تصفهم بـ”الإرهابيين” و”المهربين”.
وتشكل الناحيتان العسكريتان الرابعة والسادسة المكلفتان بتأمين الحدود الإقليمية مع ليبيا ومالي عصب الجيش الجزائري في ضمان أمن واستقرار البلاد من الاختلالات المحتملة في المنطقة، وهو ما جعل قيادته تتفرّغ لتسخير كل الإمكانيات البشرية واللوجيستية والمعنوية، باعتبارها صمام الأمان الذي تراهن عليه لقطع الطريق أمام أيّ محاولة لاختراق الحدود الإقليمية.
وسبق لمحافظة تمنراست الواقعة على الحدود مع كل من مالي والنيجر أن احتضنت قيادة مشروع ما عرف بـ”دول الميدان” الذي دعمته الحكومة الجزائرية، ويقصد بها القيادات العسكرية لجيوش دول منطقة الساحل، قبل أن تميل الكفة لصالح مبادرات أخرى كدول الساحل ودول الجوار الليبي.
وجاءت كلمة الجنرال أحمد قايد صالح أمام ضباط ومنتسبي الجيش خلال زيارة إلى المنطقة العسكرية السادسة التي يقع مقرها في مدينة تمنراست وتضم ولايات في أقصى الجنوب، حاملة رسائل ميدانية وسياسية للأطراف التي تعمل على تغذية الصراعات العسكرية في الدول المضطربة، خاصة التنظيمات الجهادية التي تستغل الانفلات الأمني وضعف حكومات المنطقة لتحويل المنطقة إلى بؤرة توتر مزمنة.
وقال قائد أركان الجيش “إن حفظ هيبة الجزائر إقليميا ودوليا مهمة نبيلة موضوعة بين أيدي أبنائها المخلصين، لا سيما ونحن نعيش اليوم في عالم غير مستقر وغير آمن وغير مأمون الجانب، بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى، والأمثلة على ذلك كثيرة وكثيرة جدا، أثبتها الماضي القريب والبعيد ويثبتها الحاضر”.
وأضاف “وهو ما جعلنا ويجعلنا اليوم في الجيش الوطني الشعبي نعمل على تمتين دعائم قدرتنا العسكرية وعلى استنهاض أداتها الرادعة لتكون بالمرصاد لكلّ من تسوّل له نفسه الغادرة، التفكير في المساس بسيادة الجزائر وبأمنها الوطني”.
ويعمق الوضع المتدهور في بعض دول الجوار الجزائري، كليبيا ومالي، متاعب الجيش الجزائري في محاربة جيوب الإرهاب في الداخل، حيث لا زالت خلايا داعش تبحث عن موطئ قدم ثابت في البلاد، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي يعكّر صفو الأمن في بعض المناطق الغابية والمعزولة في الشمال، فضلا عن نشاط كتيبة المرابطون وبعض التنظيمات المقربة من القاعدة في الصحراء.
وشكل تحرك زعيم المرابطون مختار بلمختار، المطلوب الأول للجيش الأميركي وجيوش المنطقة، في الأقاليم الصحراوية وتنقله بين بعض القواعد الخلفية في ليبيا، مصدر قلق حقيقي للجيش الجزائري، كون بقائه سيبقي التهديدات باستهداف المصالح الاستراتيجية والنفطية في الجنوب قائمة، رغم الجهود المكثفة في إحباط وإجهاض مساعي تموين وتمويل المجموعات الجهادية بالذخيرة والسلاح الناجمة عن ممارسات التهريب والاتجار في المواد المحظورة.
وفي 2013 تعرضت منشأة غازية جزائرية في منطقة “تيغنتورين” (جنوب شرق)، القريبة من الحدود الليبية، لهجوم إرهابي نفذته جماعة أطلقت على نفسها “الموقعون بالدماء” والتي يقودها الجزائري بلمختار (أحد قيادات تنظيم القاعدة الإرهابي في الصحراء الإفريقية)، وتضم عناصر من تونس وليبيا ومصر وجنسيات أفريقية، وانطلقت هذه الجماعة من شمالي مالي وعبرت حدود النيجر لتدخل الأراضي الليبية ومنها هاجمت المنشأة الغازية الجزائرية، قبل أن يتم القضاء على جميع عناصرها، لكن الهجوم خلف مقتل رعايا أجانب.
وتسخّر السلطة الجزائرية في السنوات الأخيرة إمكانيات مادية ومالية ضخمة لصالح المؤسستين العسكرية والأمنية، بلغت سقف العشرين مليار دولار خلال سنوات الأريحية المالية، وقد وظّفت في إبرام صفقات عسكرية ولوجيستية من أجل تطوير أداء المؤسستين مع التحديات والأخطار المحتملة وتعويض سنوات الانتهاك التي عاشتها بسبب العشرية السوداء في حقبة تسعينات القرن العشرين.
وإذ تراهن الدبلوماسية المحلية على تغليب كفة الحلول الدبلوماسية في أزمات المنطقة، لتجنيب ما تسميه بـ”انفلات عسكري وأمني في المنطقة”، تعتبر السلطات الجزائرية أن ضمان جاهزية وكفاءة الجيش في الخيارات السيئة يبقى الرهان الوحيد لتأمين سيادة ووحدة البلاد.
أرسل تعليقك