تونس - العرب اليوم
يتحمّل "مهدي" ذو الرابعة عشر عاما مشقة العمل تحت أشعة الشمس الحارقة في حظيرة بناء بمحافظة سليانة التونسية، في سبيل تحصيل ثمن عودته إلى مقاعد الدراسة منتصف أيلول المقبل.
وعلى الرغم من أن الابتسامة لا تفارق محيا هذا الطفل، إلا أنّها تخفي في المقابل جبلا من الهموم التي قادته إلى العمل في سن مبكرة وتحمّل أشغال تبدو شاقة حتى بالنسبة لرجل، فما بالك بطفل يقترب من سن المراهقة.
دخل مهدي ميدان العمل الموسمي قبل أربع سنوات قبل أن ينتقل حتّى إلى مقاعد التعليم الأساسي، فلم يترك عملا موسميا إلّا وعمل به، فانتقل من المزارع الفلاحية إلى دكاكين الحدادة والنجارة إلى حظائر البناء.
يقول مهدي لـ "سبوتنيك": "كل شيء يهون في سبيل تحقيق حلم والدي الذي هو أيضا حلمي، وهو أن أتخرّج من الجامعات وأتحصّل على وظيفة مرموقة تقتلعنا من براثن الفقر والخصاصة".
ويؤكد مهدي أن والديه عاجزان عن توفير لقمة العيش لأسرتهم الفقيرة المكونة من خمسة أفراد، فما بالك بثمن العودة المدرسية لثلاثة أطفال، مشيرا إلى أنه يضطر إلى البحث عن عمل مهما ضؤل مردوده المادي ومهما علت مشقته في سبيل إكمال مشواره الدراسي.
وتدرك والدة مهدي أنها تضع طفلها تحت طائلة الاستغلال المادي والتشغيل المبكر للأطفال، ولكنها لا تجد خيارا آخر يحميه من التسرب المدرسي (الانقطاع عن الدراسة). تقول: "لا يحتمل قلب أي أم أن تترك ابنها في طريق التشغيل المبكر، ولكن ليس هناك خيار متبقٍّ، فالدراسة مكلفة جدا وجيوبنا غير قادرة على تحمل نفقاتها".
التعليم العمومي ليس مجانيا
وتشارك والدة مهدي اعتقاد الكثير من التونسيين وخاصة منهم العائلات محدودة الدخل في أن عبارة "التعليم العمومي مجاني" بعيدة جدا عن الحقيقة، بالنظر إلى ارتفاع كلفة العودة ونقص المواد الدراسية المدعمة التي لا تغطي طلبات الجميع.
وأقرت تونس مجانية وإلزامية التعليم العمومي عبر قانون صدر سنة 1958، ثم تم تدعيم هذا المبدأ بالتنصيص عليه في دستور 2014 الذي ينص الفصل 39 منه على أن "التعليم إلزامي إلى سن السادسة عشرة. تضمن الدولة الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله، وتسعى إلى توفير الامكانيات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين".
ويرى رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي ، أن عبارة "التعليم مجاني" فقدت مصداقيتها بالنظر إلى الكلفة الباهظة للعودة المدرسية التي ترتفع أكثر سنة بعد أخرى.
وبيّن الرياحي أن كلفة العودة المدرسية لهذه السنة سترتفع بنسبة 20 بالمائة مقارنة بالسنة الماضية نتيجة ارتفاع أسعار الورق الذي يؤثر بشكل مباشر على أسعار الكتب والكراسات.
وأضاف "في السنة الماضية قدرت كلفة العودة المدرسية بالنسبة لتلميذ المرحلة الدراسية الأولى بـ 700 دينار (ما يعادل 223 دولار)، أما هذه السنة فمن المتوقع أن تصل الكلفة إلى 840 دينارا (255 دولار)".
وشدد الرياحي على أن العودة المدرسية تحولت إلى هاجس يؤرق بال جل العائلات التونسية، مشيرا إلى أن الدعم الذي تقدمه الحكومة لا يحل أزمة هذه العائلات، "فعلى سبيل المثال لا توفر الدولة سوى نصف الكمية التي يحتاجها التلاميذ من الكراس المدعم، وهو ما يجبر العائلات على شراء الكراس غير المدعم بأسعار تتجاوز أضعاف أضعاف الكراس المدعم".
وتابع "يصل ثمن الكراس غير المدعم إلى 20 دينارا، وعدد الكراسات التي يطلبها المدرسون تتراوح بين 14 و18 كراسا في مراحل التعليم الإعدادي والأساسي والثانوي (مراحل ما قبل الباكالوريا)، وهو ما يعني أن ثمن الكراسات لوحدة يفوق 300 دينار، دون احتساب الكتب والحقيبة والميدعة والزي الرياضي".
ولاحظ الرياحي أن بعض العائلات التونسية أصبحت تلجأ إلى الاقتراض لتأمين ثمن عودة أبنائها إلى مقاعد الدراسة، خاصة إذا كانت العائلة تضم أكثر من طفل.
ويرى الرياحي أن الحل يتمثل في ترشيد قائمة المواد الدراسية التي يطلبها المدرسون من التلاميذ بكيفة تراعي المقدرة الشرائية للعائلات وتقلص من الإتلاف الورقي آخر السنة، مضيفا "على الدولة أن تفكر أيضا في رقمنة المنظومة التعليمية، إذ لا يعقل أن أكثر من 60 ألف مؤسسة تعليمية لا تحتوي على خدمات الإنترنت".
ويؤكد الرياحي أن ارتفاع كلفة الدراسة عموما واضمحلال مجانية التعليم العمومي أسهما في اتساع رقعة الانقطاع المبكر عن الدراسة الذي بات يشمل 120 ألف طفل سنويا، في ظل عجز العائلات التونسية عن مجاراة نسق ارتفاع الأسعار.
بدوره، قال رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ رضا الزهروني لـ "سبوتنيك"، إن الكثير من العائلات باتت عاجزة عن تأمين العودة المدرسية التي وصفها بأنها "باهظة جدا" مقارنة بمقدرتهم الشرائية المتدهوة.
وتابع "مع جنون الأسعار الذي طال المواد الغذائية والمحروقات وفواتير الكهرباء والماء، باتت تكلفة العودة المدرسية أكثر ثقلا على جيب العائلات التونسية"، مشيرا إلى أن تأمين العودة المدرسية أصبح صعبا ليس فقط على العائلات الفقيرة وإنما حتى متوسطة الدخل.
وأكد الزهروني أن هذا الأمر انعكس على نتائج التلاميذ وعلى أمد حياتهم المدرسية، قائلا "أينما تضعف القدرة الشرائية للعائلات أين نلاحظ ضعف نسبة النجاح من جهة وارتفاع نسبة الانقطاع المبكر عن الدراسة من جهة أخرى، باستثناء حالات قليلة في عدد من العائلات".
ويرى الزهروني أن التعليم العمومي في تونس لم يعد يؤسس للعدالة الاجتماعية كما كان في السابق، بل صار سببا في تعميق الفوارق الاجتماعية. وأوضح: "من المفترض أن التلاميذ يتمتعون بنفس الحظوظ مهما كان مستواهم الاجتماعي، ولكن ما نلاحظه أن الغني هو من ينجح والفقير هو من يخفق، فالمدرسة لم تعد مصعدا اجتماعيا".
وبيّن الزهروني أن جيب المواطن بات محددا لنجاح التلميذ، مشيرا إلى أن رحلة الإنفاق على التعليم لا تتوقف عند حدود العودة المدرسية، وإنما تمتد على مدار السنة لتشمل ثمن التنقل والغذاء والبحوث وغيرها من متطلبات الدراسة، بالإضافة إلى الكلفة الباهظة المتأتية من الدروس الخصوصية.
وتابع: "هذه الدروس تحولت إلى شر لا بد منه، فالتلميذ التونسي أصبح عاجزا عن النجاح دون الدروس الخصوصية التي يجابه بها الأولياء نقص التحصيل المعرفي وتراجع مردودية منظومة التعليم العمومي".
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
مقتل تلميذة عائدة من مدرستها برصاص طائش في نيويورك
اتفاق مشْروط لإنقاذ العام الدراسي في لبنان تَوصلَت له الحكومة مع مُعلِّمي القطاع الرسمي
أرسل تعليقك