أثارت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، مخاوف مؤقتة من تأثيرات سلبية على الاقتصاد التركي في المرحلة المقبلة، لكن بوادر عودة الاستقرار ودعم الشعب التركي للسلطة الشرعية دفع إلى توقعات إيجابية وإلى سرعة تجاوز هذه المخاوف. وقد بدأ القطاع المصرفي صامدا ولم يشهد تغيرات غير طبيعية تشكل هزة في استقراره، حسب ما أكد حسين أيدن، رئيس اتحاد البنوك التركية، الذي أعلن أن القطاع المصرفي لم يشهد تطورات غير معتادة، وأن البنوك ليست بحاجة على ما يبدو للإجراءات التي أعلنها البنك المركزي مطلع الأسبوع، تأثرا بمحاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت مساء الجمعة.
وقال أيدن إن المصارف لم تشهد زيادة خطيرة في تكلفة الاقتراض الخارجي. وكان البنك المركزي التركي أعلن في مطلع الأسبوع أنه سيوفر سيولة غير محدودة للبنوك في خطوة تهدف طمأنة المستثمرين بشأن سلامة القطاع المصرفي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة يوم الجمعة.
واستعادت الليرة التركية نحو 3 في المائة من قيمتها أمام الدولار صباح الاثنين، وبنسبة تناهز 4 في المائة صباح الثلاثاء، مواصلة تعافيها بعد أن أحبطت السلطات التركية محاولة الانقلاب، وهو ما حد من مخاوف المستثمرين بشأن المخاطر السياسية.
ومع بداية تعاملات الأسبوع، صباح الاثنين، جرى تداول الليرة عند 2.9274 ليرة للدولار، بارتفاع نحو 3 في المائة. في حين بدأت التداولات أمس عند مستوى 2.9784. لكنها تراجعت عند الساعة 3 بتوقيت غرينتش، لتعود إلى معدلات 3.0071.
وفي إشارة إلى توجهاته المقبلة، قال البنك المركزي مطلع الأسبوع إن سعر الفائدة على إيداع اليوم الواحد به سيكون صفرًا، وأنه سيسمح للبنوك بوضع ودائع العملات الأجنبية ضمانا ومن دون حدود مقابل سيولة بالعملة الوطنية. وأشار إلى أن الحد الأقصى لودائع العملات الأجنبية الحالي للبنوك هو 50 مليار دولار أميركي، وهو ما يمكن زيادته وتحسين شروط الضمان والتكلفة.
وأكد البنك أن جميع الأسواق والأنظمة ستظل مفتوحة لإتمام التسوية النهائية لتلك التعاملات، وستتم مراقبتها عن كثب. وكانت الليرة التركية شهدت هبوطا كبيرا في قيمها المسجلة أمام العملات الأجنبية يوم السبت عقب محاولة الانقلاب التي شهدتها البلاد، مساء الجمعة، ما جعل بعض محلات الصرافة تمتنع عن تداول العملات. وفقدت الليرة التركية 5 في المائة من قيمتها أمام الدولار الأميركي، فبات الدولار الواحد يعادل 3.0185 ليرة، بعد أن كان سعر الدولار يتراوح الأسبوع الفائت بين 2.90 و2.88 ليرة.
وتحركت الحكومة التركية بسرعة كبيرة لحماية الليرة التي هوت أمام الدولار، ووفرت سيولة مالية للبنوك بفائدة صفرية لمواجهة هلع المودعين والسيطرة على انسيابية حركة الأموال في الاقتصاد، وللحد من التداعيات السلبية المرتقبة على الاستثمارات الأجنبية، ومن بينها الاستثمارات الخليجية التي تضاعفت مرات خلال عدة في السنوات القليلة الماضية.
ورأى خبراء اقتصاديون هذه الخطوات السريعة مؤشرا على الرغبة في ضمان استقرار الاستثمارات الأجنبية التي ستخشى على مستقبلها في ضوء حالة عدم اليقين تجاه الأوضاع في تركيا، واصفين القرارات الاقتصادية، وتحركات البنك المركزي المقبلة، بأنها لا تقل أهمية عن العامل السياسي، المتمثل في ضرورة منح رسالة ثقة للعالم، خصوصا الاستثمارات التي ستعاني من تراجع قيمة الليرة وتذبذبها.
وعبر بعض الخبراء عن ثقتهم بقدرة الاقتصاد التركي، مع استعادة الدولة حالة الاستقرار على المدى البعيد، وقدرته على مواصلة توفير الفرص الاستثمارية للشركات الأجنبية، معتبرين أن محاولة الانقلاب ستكون لها تأثيرات على المدى القصير على الاستثمارات الخليجية والأجنبية، لكنها ستتحول إلى تعزيز الثقة بالاستقرار على المديين المتوسط والبعيد.
وتضاعف حجم الاستثمارات الخليجية في تركيا خلال السنوات القليلة الماضية، لكن الإحصاءات حول حجم تلك الاستثمارات قليلة وغير دقيقة، لكن أقرب التقديرات تتحدث عن استثمارات في قطاع العقارات جرت خلال السنوات الخمس الأخيرة جعلت قيمة الاستثمار الخليجي في قطاع العقار التركي ترتفع إلى 10 مليارات دولار.
وبلغت الاستثمارات الخليجية في تركيا في العام 2008 المستوى نفسه وشكلت نصف حجم الاستثمارات الأجنبية في تركيا بفضل التقارب بين تركيا والعالم العربي في هذه الفترة. ويصعب تقدير القيمة الفعلية للاستثمارات الخليجية في تركيا لكونها تتمثل في الغالب في أموال خاصة، حيث يشتري المواطنون الخليجيون العقارات منذ سنوات قبل أن تذهب البنوك الخليجية وتواكب الطلب على العقار التركي بتقديم حلول ومنتجات عقارية وتمويلات متعددة هناك. وتعمل 4 بنوك خليجية في تركيا، أحدها مصرف "كويت تورك" التابع لبيت التمويل الكويتي "بيتك"، الذي استبعد رئيسه التنفيذي مازن الناهض، تضرر المصارف العاملة في تركيا بتداعيات محاولة الانقلاب الفاشلة على المديين المتوسط والبعيد.
ومع ذلك، يتوقع خبراء أن الاضطرابات السياسية قد تترك الاقتصاد التركي عرضة للضعف لأنه يعتمد على الاستثمار الأجنبي في تمويل العجز في الحساب الجاري. علمًا بأن العجز سيتسع إلى 4.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2016. من 4.4 في المائة في عام 2015.
أما أكثر الضربات المتوقعة، فستكون لقطاع السياحة بسبب تداعيات محاولة الانقلاب الفاشلة وقبلها التفجيرات التي استهدفت أماكن سياحية واستراتيجية عدة في تركيا، منها مطار أتاتورك في إسطنبول، وهو ما يهدد بموجة قوية من إلغاء الحجوزات السياحية.
وبحسب إحصاءات منظمة السياحة العالمية، تراجعت السياحة إلى تركيا بنسبة 12.8 في المائة خلال شهر يوليو/تموز الحالي بسبب التوتر الأمني. واستأنفت الخطوط الجوية التركية رحلاتها الجوية من مطار إسطنبول الدولي، يوم السبت الماضي، في حين ألغت بعض الشركات الأجنبية رحلات نهاية الأسبوع. وقال إيلكر عيسى رئيس مجلس إدارة الخطوط الجوية التركية إن إغلاق مطار أتاتورك بإسطنبول في وقت متأخر يوم الجمعة تسبب في تحويل 35 طائرة إلى وجهات أخرى مع إلغاء 32 رحلة. وأظهرت البيانات تراجع عدد السياح الأجانب إلى تركيا بنسبة 28 في المائة في أبريل/نيسان الماضي، وهو أكبر انخفاض منذ 17 عامًا.
ويشير التراجع في معدلات السياحة إلى مزيد من معاناة الاقتصاد التركي، الذي يعاني بالفعل من تباطؤ الصادرات وضعف الاستثمارات. ويتوقع بعض الاقتصاديين أن عائدات السياحة ستنخفض بمقدار الربع هذا العام، بما يكلف الاقتصاد نحو 8 مليارات دولار.
ويعد المحرك الرئيسي للاقتصاد التركي هو مدى الاستهلاك المنزلي الخاص، الذي يغطي ما يقرب من 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في تركيا. وعلى الرغم من وجود عدد كبير من الشكوك، والتهديدات الأمنية، والهجرة الداخلية الناتجة عن ذلك، سواء من المواطنين في المناطق الكردية أو من اللاجئين السوريين، فإن ذلك كان له أثر إيجابي على إنفاق الأسر، الذي ارتفع بنسبة 5 في المائة في الربع الأول من عام 2016.
وأدت العقوبات الروسية على صادرات المواد الغذائية التركية، التي فرضت بعد أن أسقطت طائرة مقاتلة تركية طائرة عسكرية روسية على الحدود بين تركيا وسوريا في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، إلى انخفاض كبير في أسعار المواد الغذائية المحلية، وكان لذلك أثر إيجابي على التضخم في الربع الأول من 2016. ويستفيد الاقتصاد التركي من حالة عدم اليقين حول الاقتصاد الإقليمي والعالمي، حيث إنه يوفر مكانًا أفضل نسبيًا للقيام بأعمال تجارية.
ولا يزال التصنيف الائتماني العام لتركيا أعلى من البرازيل، وكرواتيا، والبرتغال، وقبرص، وصربيا؛ على الرغم من المخاطر السياسية. وارتفعت تركيا مركزين في عام 2015 لتصبح الوجهة الـ20 الأكثر شعبية في العالم للاستثمار الأجنبي المباشر. وقال البنك الدولي - في تقرير صدر الجمعة - إن نمو الناتج المحلي الإجمالي (GDP) تباطأ في تركيا في النصف الأول من عام 2016، مقارنة مع الفترة ذاتها من العام السابق نتيجة لتباطؤ تراكم المخزون وانخفاض في صافي الصادرات.
وأوضح التقرير أن الركود يوحي بأن الناتج المحلي الإجمالي التركي سينمو في 2016 بأقل من نسبة 4 في المائة المتحققة في عام 2015. وذلك لأن تراكم المخزون الذي أدى للنمو البطيء في الربع الأول من العام، سيؤدي إلى تباطؤ النمو على مستوى العام.
وأشار التقرير إلى نمو الواردات التركية بصورة أسرع من الصادرات نتيجة لزيادة الاستهلاك المحلي، مما أثر بشكل سلبي على الاقتصاد. لافتا إلى أن التطورات السلبية على التجارة تفاقمت بسبب المسائل الأمنية وتراجع السياحة بسبب العقوبات الروسية، في حين من المرجح أن يزداد التضخم في النصف الثاني من 2016.
وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) نمو الاقتصاد التركي بنسبة 3.9 في المائة هذا العام، فضلا عن النمو بنحو 3.7 في المائة في عام 2017. وذكرت أنه من أجل الحصول على نمو قوي ومستدام في حجم المدخرات المحلية ينبغي زيادة وتنويع الطلب الأجنبي.
وخفضت المنظمة التوقع السابق عند 7.9 في المائة للرقم القياسي لأسعار المستهلك (CPI) في عام 2016 إلى 7.4 في المائة، ولكن تم رفع التوقعات من 7.3 في المائة لعام 2017 إلى 7.4 في المائة. ولم تدخل المنظمة أي تغيير في توقعات العجز في الحساب الجاري.
وأوضحت دراسة المنظمة عن الاقتصاد التركي في عام 2016، التي نشرت الجمعة، أن النمو الاقتصادي ينظر إليه باعتباره قويًا على الرغم من الظروف السلبية على مدى العامين الماضيين، كالمخاطر الأمنية الداخلية، والتدهور في العلاقات التجارية مع روسيا، وتدفق اللاجئين.
ونبهت المنظمة إلى أن العجز في الحساب الأجنبي نما وتدهور صافي وضع الاستثمار الأجنبي بطريقة أو بأخرى على مدى السنوات الـ10 الماضية.
وشدد تقرير المنظمة على وجوب زيادة المدخرات المحلية من أجل الحصول على النمو المرتفع والمستدام، ذلك فضلاً عن ضرورة تحقيق التوازن بين الطلب الأجنبي والمحلي. وتشير الدراسة أيضا إلى أن القدرة التنافسية ينبغي رفعها، من خلال خفض الأجور وتضخم الأسعار وزيادة الإنتاجية.
وقالت المنظمة، في أول دراسة للحالة الاقتصادية لتركيا منذ عام 2014، إن الحكومة في أنقرة يجب أن تعزز من الانخفاض في معدل الادخار المحلي في البلاد، وتعزز سيادة القانون، وتحارب الفساد.
من جانبها، وضعت "موديز أنفستورز سرفيس" تصنيف تركيا وسنداتها البالغ Baa3 قيد المراجعة لخفض محتمل، وذلك في تقرير مساء الاثنين، مشيرة إلى الحاجة إلى تقييم الأثر متوسط المدى للانقلاب العسكري الفاشل على النمو الاقتصادي ومؤسسات صناعة السياسات والاحتياطيات الأجنبية. وقالت "موديز" إن الانقلاب الفاشل قد يؤثر تأثيرا سلبيا كبيرا على منحنى النمو التركي. وخفضت وكالة التصنيفات الائتمانية توقعها لنمو الاقتصاد التركي إلى ثلاثة في المائة
أرسل تعليقك