بدأت الناشطة زينب الجبوري خُطوة مِن الألف ميل في طريق الانفتاح، عبر افتتاحها مقهى ثقافيا لكلا الجنسين في النجف الأشرف، في مدينة عرفت بطابعها الديني المحافظ بل والمنغلق على مدى قرون خلت.
وفي تقرير لموقع DW، ذكرت الجبوري أنه بمجرد دخولك مقهى "أوراما"، تنسى أنك في محافظة يغلب عليها الطابع الديني المحافظ بل والمنغلق، ففيه ترى شابات يجلسن في مكان واحد مع شباب، من دون أي "صلة رحم" بينهم! الاستغراب يسيطر أيضا على كل من مَرَّ بالقرب من مقهى "أوراما" الثقافي في محافظة النجف الأشرف جنوبي غربي العاصمة العراقية بغداد، قبل أن يعرف أن جدار الانغلاق قد شرعت في هدمه إحدى الشابات "النجفيات" بعد افتتاحها أول مقهى ثقافي يجمع بين الجنسين، ومن مختلف الشرائح المجتمعية.
الاستغراب السابق يعود إلى أن محافظة النجف تعد إحدى المدن الدينية المهمة في العراق لوجود مرقد علي ابن أبي طالب أول الأئمة عند المسلمين الشيعة ورابع الخلفاء الراشدين عند المسلمين السنة، فضلا عن كون المحافظة تمثل مركزا للحوزة العلمية الدينية للشيعة في العراق والعالم.
"البداية كانت حلما لا أكثر"، تقول الناشطة المدنية زينب الجبوري، (22 عاما)، لـDW عربية. الجبوري، وهي طالبة في كلية الصيدلة، تضيف أن فكرة المقهى الثقافي بدأت لديها مع بدايات تعرفها على الكتب، ونمت بالتوازي مع زيادة شغفها بالقراءة المتنوعة، ومحاولاتها الأولى في كتابة القصص القصيرة. وأكدت طالبة الصيدلة أنها كانت تحلم بوجود مكتبة صغيرة يمكنها أن ترتادها وتطالع فيها الكتب التي تحبها، وتابعت: "إلا أن المكتبات في النجف، كان الطابع الغالب عليها أنها مكتبات دينية، وأيضا هناك محددات وضوابط لدخول النساء إلى هذه المكتبات. لا يمكن أن تجد راحتك هناك". وتوضح زينب الجبوري: "الإرادة والإصرار والتحدي، مكّنتني من تحقيق ذلك الحلم. كانت بحق مثلث القوة".
يقدّم مقهى أوراما المشروبات الساخنة والباردة لرواده، "إلا أنه يقدم الغذاء الأنفع للإنسان؛ العلم؛ من خلال مكتبة تحوي رفوفها أكثر من أربعة آلاف كتاب" توضح الجبوري.
تتنوع عناوين الكتب بين السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب بفروعه: الرواية والقصة والشعر وحتى النقد، فضلا عن أن العناوين لم تقتصر على النتاج العربي، بل تعدت ذلك الى المؤلفات الأجنبية وبلغاتها المختلفة، تتابع صاحبة مقهى أوراما.
ليس هذا وحسب بل إن جدران المقهى مزينة بلوحات تمزج بين الحضارات العراقية القديمة، والمعالم الإسلامية في النجف، فهناك لوحة تجريدية على أحد جدران المقهى، وأخرى واقعية على جدارٍ ثانٍ، وبورتريه لإحدى الشخصيات الثقافية على جدار ثالث.
وترى الجبوري أن "الانغلاق الفكري" هو سبب غياب هذه النوعية من المكتبات في النجف "لذا كان اختياري لاسم "أوراما"، الذي يعني الأرض المرتفعة، فالارتفاع الحقيقي يكمن في الارتفاع الفكري، فكان مقهى أوراما الثقافي".
المقهى، والقول للجبوري، بات يحتضن عددا من الأنشطة المتنوعة، تشمل المعارض الفنية، الندوات الثقافية، بازارات الأعمال اليدوية التي تقوم بها الشابات في النجف، بالإضافة إلى لقاءات الفرق التطوعية ومنظمات المجتمع المدني في المحافظة، لافتةً إلى أن "ما يسعدني أكثر، هو أن المقهى أصبح شبيها بورشة لتلاقح الأفكار وتبادل الآراء بين الأجيال، فتجد الشاب الذي يبدأ مشواره في الحياة جالسا بالقرب من إحدى الشخصيات التي لها باع طويل في ذات المشوار، الذي يسعى الشاب للسير فيه." وتضيف زينب الجبوري: "هنا يتم تبادل الآراء، فيستفيد الأول من خبرة الثاني، والأخير يستمع للأفكار الجديدة".
وتبين الجبوري أنها واجهت عقبات عديدة قبل الشروع بافتتاح المقهى الثقافي، كانت أبرزها العقبة المالية، إذ إن "المشروع يعتمد على التمويل الذاتي، ولم يُدعم من أي جهة حكومية أو غير حكومية"، مستطردةً بالحديث: "لكنني وبمثلث القوة التي أملك، تجاوزت تلك العقبات، على الرغم من أن الأمر تسبب بتأخير بسيط في موعد الافتتاح"، مبينةً أن "ذلك لا يلغي الدعم المعنوي الكبير من قبل الأصدقاء وقبلهم العائلة".
ومع أن الجبوري فضلت عدم الإفصاح عما وصفته بـ"المضايقات"، التي تعرضت لها بعد الافتتاح، إلا أنها بينت أن "تلك التصرفات والانتقادات التي وجهها البعض، لم تؤثر في عزيمتي، كما أنها تعتبر قليلة نسبيا مقارنة بالدعم المعنوي الذي قدمته لي مجموعة من النخب المثقفة بالنجف والمحافظات الأخرى". ولعل أجمل مظاهر الدعم التي تلقتها الجبوري هو مجيء أستاذة جامعية من محافظة بابل، لتقدم لها وردة كدعم منها لهذا المقهى، تحكي الجبوري.
أما الناشطة المدنية زهراء العبدلي، فقد تحدثت لـDW عربية، قائلة: "الفكرة كانت مبهرة لي، سيما أننا كنا نعاني من غياب المراكز الثقافية، في المحافظة. اليوم باستطاعتي أن أجد مكاناً هادئاً أقرأ فيه ومنه، وأيضاً احتسي القهوة من دون مضايقات، كأنني في بيتي. بيت من الكتب".
وتضيف العبدلي أن "الشباب في النجف ومن كلا الجنسين، أصبحوا أكثر وعياً وانفتاحاً، على أنفسهم وعلى الآخرين، بيد أن المجتمع، الذي يعيشون فيه، منغلق دينيا، والأعراف الدينية والقبلية لها الصدارة في تحديد وتقييد تحركات هذه الشريحة الطموحة، شريحة الشباب"، مبينة أن "ما نحتاج إليه، هو المزيد من الأنشطة الشبابية، مثل تلك التي أقدمت عليه الشابة زينب الجبوري".
بينما يجد الفنان التشكيلي أمجد طالب أن "المعارض الفنية في النجف كانت مغيبة بشكل شبه تام، لعدم وجود قاعات عرض يمكن أن تتبنى احتضان معارض لرسومات الشباب من لوحات تجريدية أو واقعية أو حتى سريالية".
ويوضّح أمجد طالب في حديثه لـDW عربية، أن "جدران مقهى أوراما الثقافي، نجدها اليوم شبيهة بمعرض دائم للوحات مختلف الفنانين التشكيليين في النجف، فضلا عن أن قاعته فيها مساحة صالحة لإقامة معارض فردية أو مشتركة بين التشكيليين، وهو ما سنعمل عليه خلال الفترة المقبلة".
وأنشأ مقهى أوراما صفحة له على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" يعلن فيها عن أنشطته وندواته والكتب الجديدة التي تنضم إلى مكتبته، ويتابع الصفحة آلاف الأشخاص، من المعجبين بما يقدمه هذا المقهى الثقافي.
أرسل تعليقك