شارع الباجوري يحكي عن تحول المجتمع في مصر
آخر تحديث GMT20:03:03
 العرب اليوم -

"شارع الباجوري" يحكي عن تحول المجتمع في مصر

 العرب اليوم -

 العرب اليوم - "شارع الباجوري" يحكي عن تحول المجتمع في مصر

"شارع الباجوري"
القاهرة - العرب اليوم

وراء كل إنسان رواية، أو حكاية، أو قصة طويلة، يصنعها وهو يعانق أفراح الحياة، ويعارك أتراحها، متقلباً من حال إلى حال، وغارقاً في تفاصيل صغيرة، بعضها يستقر في قيعان الذاكرة، وقد يطمره النسيان، ويختفي ويذوب، وبعضها يأتي على مهل كلما تم استدعاؤه، وأحياناً يجيء بغتة، بلا مقدمات، ولا سابق إنذار يبزغ كالبرق، أو يهجم كالعاصفة. ويلوذ الإنسان أحياناً بماضيه ليحميه من حاضر صعب، ويرميه أكثر في نهر الحياة الدافق، إذ إن ما جرى له في الطفولة الغضة، وفي ميعة الصبا، قد يجد فيه السلوى، أو يشيد به مخزن الحياة الذي ينهل منه ليواجه ما يجري له في زمن آخر، وهن فيه العظم، واشتعل الرأس شيباً.

ومن ليس من أرباب القلم بوسعه أن يحكي على مسامع الناس ما جرى له في الزمان الأول، أما من بمكنته أن يكتب فيجد لديه الرغبة في أن يدوّن يومياته أو يكتب مذكراته في ما بعد، إما هادفاً إلى أن يخدم بها قضية أو موقفاً أو اتجاهاً، أو باحثاً فيها عن عزاء أو شفاء, أو متطلعاً إلى أن يستفيد غيره من هذه التجربة التي يعتز بها بالقطع، فكل إنسان، إلا ما ندر، يعتقد بأن ما جرى له يصلح أمثولة، من الضروري أن يطلع عليها الناس، ليجدوا فيها ما يفيدهم أو يمتعهم، أو الإثنين معاً.

ربما تكون هذه الأسباب أو الدوافع هي التي حدَت بالكاتب المصري سليمان القلشي ليكتب سيرته أو حكايته التي منحها عنوان «شارع الباجوري... حكايات من الحياة» (دار الدلتا للنشر)، مازجاً إياها بأطراف من سير الذين معه وحوله، ليتحول إلى شاهد على جانب من عصر مضى، لكن آثاره لا تزال باقية، تلقي بظلالها على حياتنا. فالسياق الذي تنبت فيه حكايات القلشي كان مفعماً بالأحداث المتقلبة، من هزيمة إلى نصر، ومن حرب إلى سلام، ومن استقلال نسبي إلى تبعية، ومن اقتصاد مخطط إلى انفتاح على المصراعين، ومن دولة تقول إنها تطبق «الاشتراكية العلمية» إلى دولة تزعم أنها تسير في طريق «العلم والإيمان»، ومن سلطة تنتمي إلى اليسار إلى أخرى يمينية، ومن تحالف مع الاتحاد السوفياتي السابق إلى الادعاء بأن 99 في المئة من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة الأميركية.

في هذا السياق الاجتماعي ـ السياسي الحافل بأحداث جسام سارت حياة الكاتب، من الطفولة إلى الشباب، ومن المدينة إلى القرية، وتحول فيها من معيل إلى عائل، لكنه لم يأت عليها جميعاً، إنما انتقى منها أربعة مشاهد كلية، انتقل عبرها بنا من شارع «الباجوري» في مدينة قويسنا (شمال القاهرة) إلى قرية «الرمالي» التي تعود إليها جذور الوالد، ولا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن تلك المدينة، ثم إلى فترة الخدمة العسكرية، التي قضاها ضابطاً احتياطاً، وشهور الغربة سعياً وراء الرزق في الأردن.

في ثنايا هذه المشاهد الكلية تتناسل اللقطات المفصّلة، وتتوالى الشخصيات، التي آثر الكاتب أن يفرد لكل منها مساحة، تتسع وتضيق وفق ثراء الشخصية أو ما بقي في الذاكرة عنها، وكأنه يريد أن يقول إن الحياة لا تطاق من دون هؤلاء الذين يقتحمون عيوننا، ونتتبع أخبارهم، ونتسلى أحياناً بحكاياتهم حتى لو كانت مغموسة في الفقر والمرارة، أو كانت مجرد مشاهد متناثرة تبعث على الضحك، أو تفضي إلى البكاء.

وتصاغ هذه الحكايات بلغة بسيطة، مباشرة، تصف بلا رتوش، وتجسد وتعين بلا مجاز، إلا في النادر، لكنها تحمل في طيّاتها، وفي مجملها، صورة ليس فقط عن حياة شخص، إنما عن أحوال مجتمع كان يحاول أن يتعافى من الاستبداد والفقر، لكنه وجد ما يشده إلى الوراء، فاستمر أبناؤه يتفرقون في بلاد الناس لمساعدة أنفسهم وذويهم على مواصلة العيش، أو يلجأ بعضهم إلى قبول الخدمة العسكرية كضابط احتياطي، بحثاً عن وظيفة موقتة، أو رغبة في مكانة اجتماعية عابرة يدرك خريجو أغلب الجامعات أنهم لن يحصّلوها سريعاً، أو يجلسون في الهزيع الأخير من الليل أو حتى في رابعة النهار مستسلمين لأحلام اليقظة التي تجعلهم يتوهمون أن المسافة بينهم وبين البنات الحبيبات قد تلاشت، وأنهن أقرب إليهم من أطراف أنوفهم.

في هذه السيرة التي تتنقل بنا إلى أربعة أماكن متتابعة: قرية الرمالي، وشارع الباجوري، والمعسكر الكائن في صحراء قاحلة، ورحلة الغربة إلى الأردن، نعرف الكثير عن صاحبها، فهو منجذب إلى المدينة، ولا تروق له رتابة الحياة في الريف، وهو راغب في التحقق، لديه نزوع إلى القيادة، ويظهر هذا من خلال خوضه انتخابات اتحاد الطلاب، والتزامه وانضباطه وتحمله المسؤولية أثناء أداء خدمته العسكرية، لكنه، على رغم هذا، شخصية حذرة، لا تحبذ الاقتحام أو الاندفاع، وتتحسس موضع قدميها، وهي تسير على مهل صوب الهدف، من دون أن تفارقها السكينة والسلام.

لقد أعاد صاحب هذه السيرة لي ما وقع في أيامي البعيدة، فاستعدت معه طفولتي أيضاً، وسنوات صباي في المدرسة والجامعة، وما تلاها من ثلاثين شهراً قضيتها في خدمة عسكرية، وظني أن كل من يقرأ هذه السيرة سيجد نفسه فيها، أو في بعضها، وسترسم أمام عينيه مشاهد من طفولته البعيدة، وصباه الذي ذهب، وسيقف عند مواقف محفورة في الذاكرة، صنعها وصنعته، ليعرف سنوات تكوينه، ويدرك الكثير من الأسباب التي تجعله يتصرف الآن على هذا النحو، إذ إن الخبرات التي توالت مع مرور الأيام، تقفز جنباً إلى جنب مع الجينات الموروثة، وتحدد للإنسان ما يفعله، بعد أن تفرض عليه جزءً كبيراً مما يفكر فيه.

إن سيرة سليمان التي صاغها في عفوية ظاهرة وصدق جلي، وبلغة محكية تتدفق بلا تكلف، هي أيام إنسان مصري سعى بكل ما أوتي من حيلة وقوة إلى أن يجد لنفسه موضع قدم في الزحام، وهو إنسان تجد أضرابه أمامك في كل مكان، في الشارع أو المكتب أو الحقل أو المصنع، وهم أبناء البلد الطيبون، الذين يتشبثون بكل أرض حلوا فيها، وكأنها قطعة من أنفسهم، ويقبضون على كل زمن مروا به، لأن دقائقه وساعاته وأيامه هي حيواتهم التي تتجاور وتتفاعل وتمتزج وتتصارع لتصنع تاريخ أمة بأسرها.

نقلا عن الحياة اللندنية

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شارع الباجوري يحكي عن تحول المجتمع في مصر شارع الباجوري يحكي عن تحول المجتمع في مصر



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 18:45 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ولي العهد السعودي يستقبل الرئيس الفرنسي في الرياض
 العرب اليوم - ولي العهد السعودي يستقبل الرئيس الفرنسي في الرياض

GMT 17:20 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

هنا الزاهد توجه رسالة مؤثرة إلى لبلبة
 العرب اليوم - هنا الزاهد توجه رسالة مؤثرة إلى لبلبة

GMT 07:30 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود
 العرب اليوم - ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود

GMT 00:18 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

قصة غروب إمبراطوريات كرة القدم

GMT 06:28 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

السجائر الالكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير معروفة

GMT 05:56 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

تدمير التاريخ

GMT 01:25 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

الأوركسترا التنموية و«مترو الرياض»

GMT 17:44 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

الجيش السوري يحاول استعادة بلدات في حماة

GMT 06:19 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

اللا نصر واللا هزيمة فى حرب لبنان!

GMT 02:32 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا تعلن عن طرح عملة جديدة يبدأ التداول بها في 2025

GMT 08:33 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

حذف حساب الفنانة أنغام من منصة أنغامي

GMT 20:57 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

عبدالله بن زايد يؤكد موقف الإمارات الداعم لسوريا

GMT 07:30 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود

GMT 18:25 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

محمد بن زايد ومحمد بن سلمان يبحثان العلاقات الأخوية

GMT 06:25 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

الروس قادمون حقاً
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab