القاهرة وتوحش المدينة 44
آخر تحديث GMT21:45:35
 العرب اليوم -

القاهرة وتوحش المدينة (4-4)

 العرب اليوم -

 العرب اليوم - القاهرة وتوحش المدينة (4-4)

عمار علي حسن

وقد عبّر الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى عن هذه الحالة ببراعة فى قصيدته «الطريق إلى السيدة» ضمن ديوانه الأول والأشهر والأجمل «مدينة بلا قلب»، حيث يقول فى مقطعها الثانى: «وسرت يا ليل المدينة/ أرقرق الآهة الحزينة/ أجرّ ساقى المجهدة/ للسيدة/ بلا نقود، جائع حتى العياء/ بلا رفيق/ كأننى طفل رمته خاطئة/ فلم يعره العابرون فى الطريق/ حتى الرثاء». ويصل الاغتراب إلى ذروته فى المقطع الأخير من القصيدة، والذى يوضح كيف لا تتصافح الأيدى ولا تتلاقى الوجوه التى تتصادف فى الشوارع، ولا تتبادل حتى الابتسامات، بل يمضى كل منهم إلى غايته، غير عابئ بغيره أبداً. وهنا يقول الشاعر: «والناس حولى ساهمون/ لا يعرفون بعضهم.. لا يعرفون/ هذا الكئيب/ لعله مثلى غريب/ أليس يعرف الكلام؟/ يقول لى.. حتى سلام». بل يجدد الشاعر نفسه لوعته وغربته فى قصيدة أخرى بعنوان «مقتل صبى»، حيث يقول: «الموت فى الميدان طن/ العجلات صفرت، توقفت/ قالوا: ابن من؟/ ولم يجب أحد/ فليس يعرف اسمه هنا سواه/ يا ولداه!/ قيلت، وغاب القائل الحزين/ والتقت العيون بالعيون/ ولم يجب أحد/ فالناس فى المدائن الكبرى عدد/ جاء ولد/ مات ولد». وفى القرن العشرين بات زحف الحضر من أبرز مظاهر العولمة، كما يقول عالم الاجتماع الإنجليزى أنتونى جيدنز، وتجاوز الأمر تلك المدن التى عرفها العالم القديم والوسيط، حيث بدأت الكرة الأرضية تعرف فى النصف الثانى من القرن المذكور، طريقها الوسيع نحو انتشار المدن، وبدأت نسبة سكانها إلى مجموع سكان الكوكب تتعزز بمرور السنين، حتى بات من المتوقع أن يصلوا إلى 63% مع نهاية الربع الأول من القرن الحادى والعشرين. وكما يقول باتريك جديس فإن المدينة «ليست مجرد مكان فى الفراغ فحسب، وإنما هى أيضاً دراما مستمرة طيلة الوقت»، وجزء من هذه الدراما أن المدينة فاعل سياسى واجتماعى واقتصادى وثقافى قوى، فهى مجتمع تعددى حيث الدرجات المتفاوتة بين سكانه من حيث العوز والكفاية، ومن زاوية المشارب الفكرية والاتجاهات السياسية التى يعتنقونها، وكذلك من باب تنوع الأنشطة الاقتصادية. فعلى خلاف مع القرية التى يعمل معظم سكانها فى الزراعة وما يرتبط بها من رعى وتجارة وطحن وخبز وتصنيع أدوات العزق والحرث والحصاد والدرس، فإن سكان المدن يعملون فى مهن عدة، مثل الصناعة والتجارة والخدمات والإنشاء، وكذلك المهن المتخصصة فى الطب والمحاماة والصحافة والمحاسبة والتدريس وغيرها. وجاءت العولمة لتزيد من قدرة المدينة على أن تكون فاعلاً فى كافة مجالات الحياة ودروبها، لأنها راكمت على رأسها مشكلات جديدة تخص البورصة والبيئة واقتصاديات المعرفة ومواقع التواصل الاجتماعى التى زادت أهل المدينة اغتراباً على غربتهم المزمنة. وراحت الأنظار تتجه إلى قياس مدى إسهام المدينة فى الإنتاج الاقتصادى، وتطوير الدولة ودفعها إلى الأمام، مع قدرتها على مجابهة تحديات العمل وحفظ الأمن والحاجة المتجددة إلى السكن، وقدرتها كذلك على صهر «الثقافات الفرعية»، التى تتجاور وتتفاعل، فى سبيكة واحدة متناغمة، أو على الأقل تتمكن من تقليص حجم الصراعات الناشبة بينها، أو إحداث حالة من التوافق تساعد على منع حدوث اضطرابات اجتماعية وسياسية أو التقليل منها إلى حد بالغ. ووسط هذا التفاعل المتواصل، عبر شبكات معقدة، تنشأ الحاجة الماسة إلى التمثيل السياسى والمشاركة فى صناعة القرار السلطوى، والمطالبة بالحقوق المدنية. وهنا تنشأ مؤسسات وهيئات الدولة الحديثة، حيث الأحزاب السياسية، وقوى المجتمع المدنى، والمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، وجماعات الضغط، والروابط المهنية والعلمية، وتلك التى تجمع أهالى الأطراف القاطنين للمدينة، والتحالفات السياسية، والهيئات الثقافية، والجمعيات الخيرية، والائتلافات الشبابية، ومختلف الحركات الاجتماعية التى تتوزع على بعض مجالات الحياة، وعلاقات السوق المتدرجة، وكل العناصر التى تغذى التنافس، وقد تنحدر إلى صراع ضار، يزيد المدينة غربة وتوحشاً.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القاهرة وتوحش المدينة 44 القاهرة وتوحش المدينة 44



الملكة رانيا تجسد الأناقة الملكية المعاصرة في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 14:05 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
 العرب اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab