وابور الجاز
آخر تحديث GMT06:29:59
 العرب اليوم -

وابور الجاز

 العرب اليوم -

 العرب اليوم - وابور الجاز

عمار علي حسن

مع ضُحى كل جمعة، يجلس «شعبان» صامتاً بين بوابير الجاز. ينفخ فى هذا لتسليك الفونية المسدودة حتى يندفع الكيروسين إلى أعلى فيشتعل، ويلحم هذا بالقصدير ليسد ثقباً صغيراً يجعل الوابور يفرغ الهواء فلا يزهر باللهب، ويُقيم أرجل هذا بعد أن تآكل أو كُسر رأسه فيجبرها أو يغيرها مما يوجد معه من قطع غيار مستعملة أو جديدة، نائمة فى قلب الصندوق الذى يحمله على ظهره كل أسبوع قادماً من مدينة المنيا إلى قرية الإسماعيلية. يجلس والعيال يتحلَّقون حوله وعيونهم معلقة بيديه اللتين تعملان فى دأب، والدهشة تكسو وجوههم وكأن «شعبان» يخترع ما لم يصل إليه أحد من العالمين. طالما رأوا الفلاحين يضربون بالفؤوس والمناجل، ويلفون الطنبور فتتدفق المياه إلى زروعهم العطشى. ويرون النجار وهو يشق جذوع الشجر بمنشاره ويقطع بقادومه ويدق بشاكوشه. ويعرفون المذراة التى تفصل القمح عن التبن. هذا كله أصبح عادياً لهم. أما ما يفعله «شعبان» فهو جديد وغريب عليهم. على المصاطب فى المساءات الرائقة يأتى الناس على ذِكر «شعبان» كثيراً. يقولون: إنه طالب فى المدرسة الفنية الصناعية، مات أبوه وترك له أختاً تكبره وتدرس بمدرسة التجارة، ويعول نفسه وإياها. ستة أيام فى المدرسة، ويوم واحد للعمل، يلملم فيه بعض قروش الفلاحين الكادحين ويعود إلى البندر. - والله بطل. - شاب محترم. - يأكل لقمته بالحلال. - كان يمكن أن ينحرف فيصبح نشالاً، لكنه سيكمل تعليمه ويجد وظيفة. هكذا كان يقال عن «شعبان» فى ليالى السمر أو خلال فترة الراحة القصيرة التى تتوسط ساعات الكدح فى الحقول تحت الشمس الحارقة. ظهور «شعبان» فى قريتنا جعل «الكانون» فى خبر كان. كل امرأة ضغطت على زوجها ليشترى لها وابوراً بدلاً من نار الخشب التى تزجى دخاناً يكتم الصدور ويلهب العيون. ومع الأيام صارت بعض الفلاحات يحملن البوابير إلى الحقول فنجت الأشجار من التقليم الجائر. تقدمت الاختراعات فصنع الصناع «وابور الشرائط» وكانت أعطاله أقل فتضاءل رزق «شعبان»، لكنه كان يأتى كل جمعة ويجلس فى مكانه المعتاد صامتاً ويداه الملطختان بالهباب لا تكفان عن العمل. وفى يوم تزوجت ابنة شيخ البلد، فأحضر لها أبوها موقداً اسمه «البوتاجاز» له أربع عيون تشتعل فى وقت واحد، ومعه أنبوبة كبيرة، كان خادمهم يذهب كل شهر ليملأها بغاز البوتاجاز من البندر. بعدها اشترطت الأمهات على خُطَّاب بناتهن أن يكون البوتاجاز أول قطعة فى جهاز العروس. وهكذا راحت البوابير تتناقص فتناقصت زيارات «شعبان» لبلدنا، لتصبح مرة واحدة كل شهر. يأتى فيجلس فى مكانه من الضحى حتى قدوم الليل ثم يذهب. وقيل إنه حصل على الدبلوم وعمل فى وظيفة بمصلحة الكهرباء، وأخته توظفت بمجلس المدينة، لكنه يواصل إصلاح البوابير ليحسن دخله، لكن أين البوابير؟ جاء يوم وجلس مكانه، لكن أحداً لم يأتِ له بشىء حتى حل المساء. وراقبته العجوز التى يسند ظهره إلى حائط بيتها المتداعى، وحزنت لحاله. وقبل أن ينهض من قعدته الطويلة جاءت وفى يدها كيس بلاستيكى به كيزان ذرة خضراء، وقالت له: - بدلاً من أن تعود ويدك خالية. اعتذر لها، لكنها أصرت، فأخذ الكيس ومضى صامتاً. بعدها لم يظهر أبداً. ومع انتشار البوتاجاز فى كل البيوت غارت سيرته، ولم يعد أحد يتحدث عن كفاحه فى ليالى السمر، ولا أوقات الراحة بين ساعات الكدح فى الحقول. ذهبت ذكراه مع وابور الجاز إلى الأبد.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وابور الجاز وابور الجاز



الملكة رانيا تجسد الأناقة الملكية المعاصرة في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 14:05 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
 العرب اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab