بقلم : فاطمة ناعوت
فى مقالى الأول حول هذا الكتاب الثرى «ألا فى الفتنة سقطوا»، للمفكر المستشار د. «محمد الدمرداش العقالى»، المنشور فى زاويتى هنا بجريدة «المصرى اليوم» بتاريخ ٦ فبراير، تحدثتُ عن التاريخ بوصفه مرآةً للمستقبل. فالأحداثُ الصعبة قد تُعيد إنتاج أوجاعها إن لم نتعلم من دروسها.
هذا ما يكشفه الكتابُ الذى استعرض بالتحليل العميق نشوء الفتنة الأولى فى الإسلام، بدءًا من «حرقوص بن زهير» وانتهاءً باغتيال «الإمام علىّ» رضى الله عنه، مُسلطًا الضوءَ على دور الخوارج فى تشويه رسالة الدين الحنيف، بادعاء التقوى. بأسلوب روائىّ موثّق، يحلل «العقالى» كيف تحوّلت شعاراتُ العدل إلى أدوات تكفير وإقصاء، مشيرًا إلى إعادة إنتاج تلك الفتن بأقنعة حداثية.
فالكتاب ليس مجرد شهادة تاريخية، بل تحذيرٌ للحاضر والمستقبل، ينبهنا إلى أن الفتن لا تموت، بل تنتظر لحظةَ غفلةٍ نكرر فيها أخطاء الماضى، حتى تُبرز أنيابَها من جديد. يتناول الكتابُ الجميلُ الفترة التاريخية الحساسة التى أعقبت وفاة الرسول ﷺ، والأحداثَ التى أدت إلى ظهور الخوارج ورفعهم لشعار «لا حكم إلا لله»، وكيف تحول هذا الشعار المشرق من كلمة حقٍّ إلى أداة للباطل وإثارة الفتن. ووعدتكم أن أتكلم فى مقالى اليوم عن الأسلوب الشيّق الذى بُنى عليه الكتابُ.
يتبع الدكتور المستشار «محمد الدمرداش العقالى» أسلوبًا يجمع بين التحليل التاريخى العميق والسرد الأدبى المتماسك، ما جعل الكتابَ أقربَ إلى رواية تاريخية توثيقية، منه إلى دراسة أكاديمية جافة، ما يُيسّر دخولها للقلب والعقل فى آن. فالكتابُ لا يقتصرُ على استعراض الأحداث التاريخية كما وردت فى المصادر التقليدية، بل يُعيدُ صياغتَها بأسلوب حوارى تفاعلىّ حىّ، يجعل القارئ عائشًا فى قلب الحدث، يسمع صليلَ السيوف فى المعارك، ويتأملُ وجوه الصحابة المتألمين من تمزق الأمّة بين العدل من جهة، والطموح السياسى من أخرى.
اعتمد «العقالى» السردَ المشهدى، حيث صوّر الأحداث وكأنها مشاهدُ سينمائية متتابعة، ما يخلق جوًا من التوتر الدرامىّ الذى يجعل القارئ متفاعلًا مع الشخصيات والأحداث، لا محضَ مُتلقٍّ لمعلومات تاريخية. فحين يتحدث عن معركة «صفين» التى انتهت برفع المصاحف على أسنّة الرماح وشقّ الصفّ، أو حين يرسم بالكلمات الحزينة لحظة اغتيال «الإمام على»، لا يكتفى بسرد الوقائع، بل يصف الانفعالات، ويرسم ملامح الوجوه الموجوعة ويحلل الحوارات التى دارت فى الكواليس، فيمزج بين الوثيقة والتخييل الأدبى، مما يمنح النص روحًا إنسانية نابضة بالحياة والشجن.
يُعيد الكتابُ بناء الشخوص فى تاريخنا الإسلامى بوصفها شخصيات روائية معقدة، لا مجرد رموز جامدة نسمعُ عنها فى كتب التاريخ. فالإمام الشهيد «علىّ بن أبى طالب» رضى الله عنه وأرضاه، على صفحات الكتاب، ليس وحسب الخليفة الرابع، بل هو رجل صالحٌ آلمه الصراعُ الناشب بين «حلم العدالة» و«واقع السياسة القاسى». و«الخوارج» ليسوا مجرد متمردين منشقّين، بل أشخاصٌ مُضلَّلون، تجمعهم العاطفة الدينية، لكنهم ينزلقون إلى العنف بسبب فهمهم المغلوط للنصوص.
يمتاز الأسلوبُ الروائى فى الكتاب بكثافة الحوارات الجدلية، التى تعكس صراع الأفكار بين الشخصيات المختلفة على اختلاف ثقافاتهم ومعاجمهم وطرائق تعبيرهم؛ ما يُدخل القارئ فى عمق الجدل الفقهى الفلسفى والسياسى الذى دار بين «علىٍّ» و«معاوية» و«الخوارج». تلك الحوارات ليست مجرد نقل للمقولات كما حفظناها، بل بنية درامية أدبية للحظات التوتر الفكرى، ما يُضفى على السردية التاريخية بُعدًا فلسفيًا جذابًّا، يجعل القارئ متورطًا فى النقاش، كما لو كان شاهدًا حقيقيًا على الحدث.
جمع المستشار «محمد الدمرداش العقالى» فى كتابه هذا، شأنَ جميع كتبه، بين اللغة الفصحى الجزلة، التى تليق بمقام النص التاريخى الرصين، وبين الأسلوب الأدبى الرهيف، الذى يُضفى لمسةً شاعريةً على بعض المشاهد الخشنة، فينقلها من صلافة الواقع السياسى إلى عذوبة الروح الطامحة للسلام والعدالة. ويتوسّل أحيانًا التوازى والإيقاع الموسيقى فى العبارات، مما يجعل النصَّ أقرب إلى الملاحم الكلاسيكية، حيث تمتزج الحقيقة بالتراجيديا. فالشاهدُ أن أهم ما يميّز أسلوب «العقالى»، تجنبه الجفاف الأكاديمى المعهود، ما يجعل المعلومات التاريخية تنسابُ بين السطور، عبر أسلوب قصصى جزلٍ ومؤثر. ولعلّ ما يميز الكتابَ كذلك هو تقديمه للأحداث من وجهات نظر متعددة؛ فلا ينحازُ إلى رواية واحدة، بل يُبرز تباينات الروايات التاريخية، ويطرح تساؤلات مفتوحة حول بعض المسائل الجدلية. وهذا الأسلوب الموضوعى فى تعاطى التاريخ، يجعل القارئ شريكًا فى إعادة التفكير فى الماضى، لا مجرد متلقٍّ سلبىّ وخامل للمعرفة.
تحيةَ احترامٍ لقلمٍ رفيع يمزج التوثيقَ بالأدب الحكائى، والتحليل بالدراما، ليعيد إحياء الماضى بأسلوب نابض بالحياة. هذا الكتاب ليس تأريخًا لما كان، بل رحلة أدبية ماضوية مستقبلية، تعلمنا أن الفتن، قديمًا وحديثًا، ليست حروبًا بين السيوف، بل صراعٌ بين الأفكار، وامتحانٌ للأخلاق، لا يسقط فيه إلا من لم يفهم دروس التاريخ.