بقلم - محمد الرميحي
غداً سوف تجرى الانتخابات العامة في العراق، وهي انتخابات مبكرة فرضتها الأزمات السياسية المتتالية، وهي الخامسة منذ عام 2003 بعد الإطاحة بحكم صدام حسين المتفرد في العراق. في الظاهرة الأولى والمهمة، أن النسب التي تُقبل على الانتخابات العراقية تراجعت من كثيفة نسبياً في البداية إلى متدنية، نسبة إقبال المواطنين على صناديق الانتخاب تقل كلما تكررت الانتخابات من دون نتائج ملموسة، ربما هذه المرة لن تكون الاستثناء، لقد كان «حلم الصناديق» للخروج من المأزق السياسي والاجتماعي لكنه بقى «حلماً»، بل أصبح في المجتمعات المنقسمة «حلماً مزعجاً». في الانتخابات العراقية الأخيرة عام 2018، ظهر على السطح السياسي نحو سبعة من التجمعات السياسية معظمها، إنْ لم يكن كلها، «طائفية وعرقية» بامتياز، وهي سبب كل التعطيل واتشار الفساد والزبائنية في العراق.
في المجتمعات المتصدعة والمقسومة لا فائدة ترجى من مخرجات الصناديق والتصويت الانتخابي العام؛ لأن قوى سياسية تستثمر التصدع، وتفرض بالتهديد أو الإغراء أو حتى التصفية الجسدية من يخالف أوامر المتنفذين. في العراق قوى سياسية تعلن انتماءها الطائفي ووجهتها السياسية وانتماءها العقدي لإيران. بعض السياسيين العراقيين يعتقدون أن مخرجات الانتخابات في الغد (العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول) سوف تكون مختلفة ولو نسبياً، وأن ذلك سوف يؤسس، كما قال بعضهم في بعض المنتديات، إلى تغيير في الدستور ليتواءم مع المتغيرات العراقية، ذلك ربما تمنيات أكثر منها قريبة إلى الواقع. سوف تنشط المجموعات السياسية، وبعضها مسلح باستخدام الشعارات الزاعقة لإرهاب العراقيين وحسم نتيجة التصويت لصالحها وسوف تكون متسيدة على البرلمان القادم. هل هذه التوقعات خارجة عن السياق؟ العقل يقول إنها ليست خارجة عن السياق، أما العاطفة فترجو ألا يتحقق ذلك السيناريو الكارثي؛ لأن العراق والمنطقة سوف يغرقان من جديد في قاع الأزمات. جزء كبير من الإشكالية التي نحن بصددها ما يمكن أن يسمى «ازدراء الهوية الوطنية» وقبول ذوبانها لدى قطاعات في الوطن لصالح هوية عابرة للوطن. هذه الظاهرة ليست محصورة على العراق، فهي تنتشر في ربوعنا العربية بدرجات إما فاقعة كما في العراق ولبنان واليمن وليبيا وسوريا، أو تحت السطح من مجموعات أصغر من الدول.
فإيران قد أخذت على عاتقها ما يسميه الزميل سام منسى (في سياق آخر) «مأسسة العنف».
ربما الاستثناء الذي يمكن الإشارة إليه في تماسك المجتمعات العربية هي المجتمعات الملكية، وقد كانت الأخيرة محط محاولات لسنوات لإشاعة بذور التصدع، ولكنها قوبلت بعدد من الإجراءات السياسية الحصيفة التي منعت من تمدد الظاهرة ومن ثم اختفائها. إلا أن كل ذلك يأخذنا إلى مكان يتوجب التفكير فيه ملياً، وهو أن كل تلك الشعارات التي أُطلقت منذ أكثر من نصف قرن كانت شعارات جوفاء صدّعت وأفقرت وأوجعت المجتمعات من إيران إلى موريتانيا على خريطة الشرق الأوسط، كما أوصلت بعض تلك المجتمعات إلى الفاقة الحقيقية شبه الدائمة. في الذهن مثالان صارخان؛ الأول اليمن الذي كان يسير في طريق النمو المعقول، وظهرت فيه شريحة واسعة نسبياً من المتعلمين والحداثيين، لم تستطع تلك النخب أن تمنع تصدع المجتمع اليمني وظهور طائفة سياسية تريد إرجاع اليمن كله ليس إلى إمامة قرن أوسطية، ولكن أيضاً إمامة تابعة لدولة أخرى، وهو أمر نسمعه يقال بصوت عالٍ في طهران. أما المثال الآخر فهو لبنان، وفيه من المفارقات العجب، فيه صناديق انتخابات شبه دورية، وفيه أيضاً طلقات مسدسات موجهة إلى رأس من يخرج عن «الصف»، وهو أمر يعرفه اللبنانيون وخاصة سياسييهم، وحتى الحلول الفاقعة في باخرة مازوت هنا وأخرى ديزل هناك، هي كمثل من يريد أن تنظر العين الرمداء لقرص الشمس، مستحيل أن تنقذ الوضع اللبناني حتى لو أصبحت عشر بواخر! الإنقاذ في مكان آخر، ليس في صناديق الانتخاب ولا البواخر، هي في العودة إلى الوطنية التي لا ترهن مصالح الوطن إلى الخارج ولا تسمح لبعض أبناء جلدتها أن يفعلوا ذلك. الذهاب إلى الحلول الدولية كما في ليبيا، وهي مجتمع متصدع آخر، عن طريق أن المخرج من الأزمة هو الذهاب إلى انتخابات عامة، تفرز مجلس نواب ورئيساً، هو «حلم آخر مزعج»؛ لأن ذلك لن يكون مكان توافق، ولا يحتاج الأمر إلى منجّم للقول إن الانتخابات الليبية الموعودة لن تحدث، أو على الأقل لن تحدث في موعدها المضروب عالمياً، وهو آخر العام. المأزق الذي تواجهه المجتمعات المتصدعة حولنا، أنه ليس هناك حلول قريبة أو حتى ممكنة في الأفق، هناك تداوٍ مؤقت (صندوق الانتخاب) ليس غيره، في مرحلة عزوف من القوى الكبرى العالمية عن التدخل النشط، وتقليص قدرات مجلس الأمن والأمم المتحدة إلى حدود «الكلام والبيانات» فقط. ليس أمام تلك المجتمعات إلا مواجهة المأزق بنفسها، على رأسه العمل من خلال بقايا الدولة ألا يكون هناك سلاح خارج الدولة، هذه الخطوة في العراق ولبنان واليمن لها أهميتها المطلقة على أي فعل سياسي آخر، ما دام هناك بقايا من سلاح الدولة قد يكون فاعلاً، الزمن سوف يحيل ذلك السلاح إلى الاستيداع وليس الفاعلية. والآخر هو ما تفعله اليوم دول خارج مأزق التصدع، وهو العمل مع الراغبين من الدول للوقوف أمام الطموح الإيراني، ومحاربة خلقه أذرعاً له في المنطقة تحت شعارات يعرف هو قبل غيره أنه غير قادر على تحقيقها، فلا هو قدم نموذج تنمية له قدر من الصدقية، ولا هو بقادر على محاربة من يدعي أنه يريد محاربتهم في المنطقة وهي إسرائيل، كل ذلك يعرفه القاصي والداني، والبعض بسبب «عمى آيديولوجي» أو «تكسب سياسي» لا يريد أن يعترف بتلك الحقيقة ويتابع بيع الوهم على نفسه وعلى جمهوره، وقد أزف الوقت لرفض البضاعة الفاسدة.
آخر الكلام:
في الكثير من دولنا تنشط عوامل صراع أهلي متعاظم خربت الأوطان، فقط على عاتق أبناء الوطن تكمن مسؤولية انتشاله من خلال إبلاغ تلك الجماعات التي ألحقت الوطن بالخارج: لقد فاض الكيل!