عن الاقتصاد السياسي للعصر الرقمي

عن الاقتصاد السياسي للعصر الرقمي

عن الاقتصاد السياسي للعصر الرقمي

 العرب اليوم -

عن الاقتصاد السياسي للعصر الرقمي

د. محمود محيي الدين
بقلم د. محمود محيي الدين

يبدو أن ما نشهده من مظاهر الخلل الاقتصادي وما يصاحبه من توترات سياسية حول العالم أننا نتعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين بالنظم الاقتصادية للقرن العشرين والمؤسسات السياسية للقرن التاسع عشر. وعلينا أن نتابع ما جرى في مهرجان التقنية المالية الذي انعقد في سنغافورة الأسبوع الماضي لاستيضاح هذا التفسير. وينعقد هذا المهرجان للعام الرابع على التوالي وشهده ستون ألف مشارك من مائة وثلاثين دولة، ويجمع بين أهل أسواق المال من ناحية والمبتكرين ورواد علوم الكومبيوتر والذكاء الاصطناعي وعلماء البيانات ومطوري نظم ومنتجات تكنولوجيا المعلومات من ناحية أخرى.

وإليك روافد أربعة انطلقت بين أروقة المهرجان ومنصات المحاكاة وندوات النقاش حول مستقبل المال والاقتصاد، وستستبين منها دون عناء أن هذه التغيرات التي تشهدها هذه الروافد ستسهم في تشكيل الاقتصاد السياسي للعالم الجديد الذي تتشكل معالمه بسرعة حادة بفعل ما أسميه بالمربكات الكبرى:

الرافد الأول يتشكل من كيانات جديدة للتقنية المالية لا عهد للأسواق المالية التقليدية بها، منها ما يحشد التمويل للمشروعات بكفاءة عالية وسرعة فائقة، ومنها ما يحول المال بين الأشخاص عبر الحدود وداخلها مستحدثاً لنظم جديدة للدفع بتكاليف زهيدة، ومنها ما يطور تطبيقات مالية تستند إلى بنية رقمية ومعلومات هائلة. وقد استمعت في جلسة صغيرة لعدد من مطوري البرامج وهم يشرحون كيف يمكن تأسيس بنك رقمي متكامل الخدمات في أقل من 24 ساعة، بين تعبيرات مندهشة وألسن معقودة لجمع من المصرفيين التقليديين كانوا يظنون قبل الجلسة أنهم ممسكون بزمام أمورهم.

لقد عُرفت البنوك والمؤسسات المالية الأخرى بقدراتها الفائقة على استغلال تكنولوجيا العصر لتدعيم نشاطها في تعبئة المدخرات ومنح الائتمان وتيسير نظم الدفع والمعاملات المالية. ألم نر تطور استخدامها مثلاً لعملات معدنية مسكوكة، لاعتمادها لأوراق البنكنوت، ثم تطورها لاستعمال الشيكات، ثم البطاقات البلاستيكية المرتبطة بماكينات الدفع الفوري، ثم الخدمات المصرفية باستخدام تكنولوجيا الإنترنت. لكنك اليوم تجد مستحدثات تكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي تتجاوز البنوك لتقوم بأعمالها، ورغم حديث لطيف عن مشاركات ومبادرات تعاون بين المؤسسات المالية التقليدية وشركات التكنولوجيا إلا أن الأخيرة أصبحت تقود تصميم أنماط ومعايير تداول النقود ووظائف التمويل. وفي حين يعاني مصرفيون تقليديون من آثار لبطالة تكنولوجية متزايدة، تجد تزايداً في الطلب من مؤسسات المال على العالمين بعلوم الحاسب والتكويد والذكاء الاصطناعي والتعامل مع قواعد البيانات الكبرى وتأمينها. فهل أعدت مؤسسات التعليم والتدريب خريجيها للعالم الجديد؟
الرافد الثاني يتمثل في هيئات للرقابة المالية والبنوك المركزية التي تحاول اللحاق بالتطورات الهائلة لشركات التقنية المالية بأساليب وإجراءات للتقنية الرقابية. ويظهر جلياً أن قواعد التعرف على العميل وإجراءات حماية الاستقرار المالي وتطوير نظم الدفع النقدي تحتاج إلى مراجعة شاملة لا تكتفي بإصدار تشريعات إظهاراً لمجاراة العصر، لكن بما هو أهم من ذلك فيما يتعلق بقدرات الرقابة المالية والإشراف على المؤسسات المالية وفاعلية التنسيق بين جهات الرقابة المالية وتلك المسؤولة عن الرقابة على قطاعات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والمنافسة ومنع الاحتكار وحماية المستهلك ومكافحة غسل الأموال، وأمن قواعد البيانات ونظم المعلومات.

وفي أحاديث جانبية برزت تساؤلات حول مدى قدرة مؤسسات الرقابة على اجتذاب الكفاءات البشرية المتميزة للعمل في مناخ تكتنفه مثالب القيود المنفرة لذوي الهمة. وبدون تقنية رقابية فعالة ستتعثر التقنية المالية حتماً مهما بلغ أصحابها من العلم أو المال، فسلطات الرقيب قد تعوق النشاط أو تحجمه أو تمنعه من الوجود، وقد تستسهل الحظر تفاديا لتحمل اللوم، وفي النهاية يدفع عموم الناس الثمن.

أما الرافد الثالث فيدور حول التقنية الحكومية، فلن يستقيم الأمر وعالم المال وجهات الرقابة عليه ينطلقان بسرعات فائقة ودواوين الحكومة تتعثر في ملفات بالية علتها أتربة تراكمت طبقاتها كآثار لعهود مبيدة وأخرى بائدة. ففي العصر الرقمي لا مجال لحديث عن خدمات حكومية دون بطاقات ذكية بأرقام موحدة وخدمات متنوعة تشمل شؤون الناس من المهد إلى اللحد. وما زالت خدمات ما يسمى بالحكومة الإلكترونية في بلدان عربية كثيرة تتوارى خجلاً، رغم كثرة الحديث عنها، وتعوقها نظم إدارية بليدة تمرد عليها أهل العصور الوسطى.

وقد كشف تقرير أخير عن ممارسة الأعمال كيف تذيلت الدول العربية، إلا قليلاً، قوائم تأسيس الأنشطة الاقتصادية وتوصيل خدمات البنية الأساسية وإصدار تراخيص العمل وحماية حقوق الملكية وقواعد الإفراج الجمركي للتجارة عبر الحدود. وكيف أن موافقات تشغيل شركة، في دول تعاني من البطالة وتراجع النمو الاقتصادي، تستغرق شهوراً، إن تمت الموافقة أصلاً، في حين أنها لا تتطلب إلا أياماً، وربما ساعات، في دول أخرى.

فضلاً عن نظم اقتصادية تستمد حيثيات بقائها منذ ما كانت مناجم الفحم اكتشافاً والآلات المسيرة بالبخار اختراعاً. ولنلقِ نظرة على تشريعات متقادمة معمول بها، بشكل ما، لأسواق العمل والتجارة ورؤوس المال والشركات والمنافسة ومنع الاحتكار وحماية المستهلك، وتسجيل العقارات وحماية حقوق الملكية، وكذلك لوائحها التنفيذية والأسوأ فوضى تطبيقاتها. ثم تجد البعض ما زال يتعجب من أسباب تراجع أغلب الدول العربية في مضمار التنافسية.

أما الرافد الرابع، وهو الأهم لضمان الاستمرار والاستقرار، فأطلق عليه التقنية المجتمعية، بمعنى مدى الاستثمار في البشر تعليماً وتثقيفاً وتدريباً لكي يكون المواطنون ومجتمعاتهم مؤهلين للاستفادة من مستجدات العصر الرقمي ومنتجات تكنولوجيا المعلومات. وقد ناقشت في مقال سابق أهمية توطين التنمية ودور المجتمعات والسلطات المحلية في إدماج عموم الناس في منظومة متكاملة ذات فرص عادلة للحياة والتقدم، وحمايتهم من الاستغلال بداية من احترام خصوصية بياناتهم وتمكينهم من أسباب التطور في عصر شديد التنافسية ستكون لاقتصاداته سادات جدد بحكم ما يملكونه من عناصر ثروته الجديدة التي لم تعد قاصرة حتماً على بعض الموارد الطبيعية والخامات الناضبة، بل علوم لا تجف بحارها.

ورغم كل هذه التطورات التي تعكسها الروافد الأربعة، ما زال البعض يظنون أن من سادوا اقتصادات العالم منذ أوائل القرن التاسع عشر سيستمرون وخلفاؤهم في مراكزهم غير مبالين بدورة عجلة التاريخ، وما وثقه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن أسباب صعود وهبوط الأمم. وعادة ما يذكر عام 1820 كعام تحول في قيادة دفة الاقتصاد العالمي من العالم القديم في الشرق لأوروبا الغربية بفعل الثورة الصناعية الأولى التي اندلعت منذ عقود سبقت على هذا التاريخ. ويحدثنا المؤرخ جون هيرست في كتابه الذي قمت بترجمته تحن عنوان «أوروبا: تاريخ وجيز» أن ثورات الصناعة صاحبتها وتلتها تغيرات اجتماعية وسياسية كبرى وأحدثت ثورات في نظم الحكم أو ثورات عليها، في مقارنة بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا في سبل تعاملها وتفاعلها مع ما طرأ من مستجدات. ومن الشواهد ما يظهر أن دفة الاقتصاد العالمي وثورته الصناعية الجديدة تميل باطراد إلى الشرق مرة أخرى، وما نراه اليوم من سمات التوتر والنزاعات ما هو إلا من أعراض هذا التحول، حتى يستقر إلى حين.

arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن الاقتصاد السياسي للعصر الرقمي عن الاقتصاد السياسي للعصر الرقمي



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أشرف حكيمي يمدد عقده مع باريس سان جيرمان حتي عام 2029

GMT 18:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 09:37 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ثوران بركاني جديد في أيسلندا يهدد منتجع بلو لاجون الشهير

GMT 22:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 11:06 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مستشفى كمال عدوان بدون أكسجين أو ماء إثر قصف إسرائيلي مدمر

GMT 10:21 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل اعتقلت 770 طفلاً فلسطينيًا في الضفة منذ 7 أكتوبر

GMT 12:02 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

قصف إسرائيلي يقتل 8 فلسطينيين في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة

GMT 08:39 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أجمل السراويل الرائجة هذا الموسم مع الحجاب

GMT 16:52 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية

GMT 17:12 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 07:01 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab