عن مستجدات اقتصاد العالم وفخ الوسط

عن مستجدات اقتصاد العالم وفخ الوسط

عن مستجدات اقتصاد العالم وفخ الوسط

 العرب اليوم -

عن مستجدات اقتصاد العالم وفخ الوسط

بقلم د. محمود محيي الدين

ربما قضيت الأيام الأخيرة من السنة الماضية، والأيام الأولى من العام الحالي، متابعاً بتعجب ما تناقلته وسائل الإعلام عن أوضاع الاقتصاد العالمي، وكيف أنه يتعرض لأزمات شتى متعددة ومستمرة، لم تترك مصدراً لها أو بعداً إلا شملته. وشرع المحللون يصنفون حدتها وأوجه تأثيرها على حياة الناس وأسباب معيشتهم. ثم ها هي صحف اقتصادية واسعة الانتشار، مثل «فايننشيال تايمز» اللندنية، تزف فجأة أخباراً وتقارير عن أجواء للتفاؤل، انتقلت عدواها بين جنبات منتجع دافوس السويسري؛ حيث عقد الأسبوع الماضي المنتدى الاقتصادي العالمي. وانتشرت روح الأمزجة المبتهجة؛ خصوصاً مع ارتفاع البورصات المالية العالمية بنحو 4 في المائة منذ بداية العام.
دعم هذا التوجه المتفائل نسبياً قرار الصين -كثاني أكبر كيان اقتصادي عالمي- بإنهاء سياسة «صفر- كورونا» وإعادة فتح البلاد للحياة العادية، ومعاودة النشاط الاقتصادي إنتاجاً واستهلاكاً. واحتفى البعض أيضاً بانخفاض أسعار الغاز الطبيعي بنحو 80 في المائة، بما سيخفف العبء عن ثالث أكبر تجمع اقتصادي تمثله أوروبا التي عانت أزمة طاقة حادة وتقلباً في أسعارها. وكان السبب الأخير للانطباعات الإيجابية هو أثر قانون تخفيض التضخم للولايات المتحدة الأميركية واستثماراته الموعودة والمدعومة بسخاء لتنفيذ برامج التحول الأخضر؛ خصوصاً في مجالات الطاقة والبنية الأساسية. مثل هذه المؤشرات عن الاقتصادات الثلاثة الأكبر عالمياً ستدفع المؤسسات المالية الدولية إلى تحديث لمؤشرات الاقتصاد العالمي، لتتوقع اقتصاداً عالمياً يتحاشى في مجمله فوهات الركود، ويسيطر على التضخم.
ويجب ألا نتعجب من سرعة تغير التوقعات وتوجهاتها، فقد تطرقت في مقال سابق نشرته هذه الصحيفة الغراء في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلى أن «ظروف اللايقين التي يعيشها العالم تجعل احتمال حدوث التوقعات المعلنة من أنواع التخرص، وإن صدقت بعض هذه التوقعات فهي من المصادفات غير المحسوبة. ولمن لديه شك، فليراجع توقعات المؤسسات الدولية على مدار السنوات الثلاث الماضية، منذ اندلاع جائحة (كورونا) عن نمو الاقتصاد العالمي، ومعدلات التضخم، وأسعار السلع الرئيسية، كالنفط ومواد الطعام والمعادن النفيسة، وأسعار صرف العملات الرئيسية، وليحدد مدى اقترابها من الواقع المعيش».
على الرغم من ذلك، ليس لدي من شك في أن الاقتصاد الأميركي سيخرج في النهاية من أزمة التضخم الراهنة بإجراءات السياسة النقدية المتبعة، وقد يضطر البنك الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة بمقدار يتراوح بين 25 و75 نقطة أساس، أي بأقل من نقطة مئوية حتى نهاية العام، ثم سيأخذ فترة لمراجعة حقيقة ما يحدث في سوق العمل بين مؤشرات تظهر متانته، ومؤشرات أخرى متعارضة تتعلق بتسريح أعداد كبيرة من العاملين في بعض الشركات الكبرى من السوق، كما سيتابع مؤشرات نمو الاقتصاد ليدفع به بعيداً عن تهديدات الركود، وسيتحقق من مدى صمود المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وقطاع العقارات، وسلامة القطاع المالي من التعرض لمخاطر زيادة القروض المتعثرة.
أما الصين، فبعد ثلاثة أعوام من الإغلاق بسبب «كوفيد» ستكون لسرعة عودتها للحياة الطبيعية آثار حميدة، برفع معدلات النمو والتشغيل بعد فترة قد يتطلبها التكيف مع الواقع الجديد، من حذر وتحفظ على مدار الشهور الأولى من هذا العام، ولكن إذا تركت الأمور تسير في أعنتها على النحو المتوقع فسيرتفع معدل نمو الاقتصاد الصيني بتأثير إيجابي على متوسط نمو الاقتصاد العالمي. ولكن هذه الزيادة في نمو الاقتصاد الصيني ستصحبها زيادة في الطلب على الطاقة والسلع الرئيسية والخامات وأسعار النقل والسفر، بما يستوجب حساب الأثر الصافي، وفقاً لمدى استجابة قطاعات الإنتاج والعرض والتوزيع، بافتراض سلامة سلاسل الإمداد من أي مربكات طبيعية، أو مفتعلة، من جراء تبني سياسات حمائية مقيدة من جانب بعض شركاء الصين التجاريين.
ربما تبدد زيادات أسعار الطاقة -بسبب معاودة الاقتصاد الصيني مسيرة نموه- مظاهر الابتهاج المبكر باحتمالات انخفاض معدلات التضخم في أوروبا؛ خصوصاً مع أجواء الحرب الدائرة في أوكرانيا، بما سيحفز استمرار البنك المركزي الأوروبي في السياسات التقييدية؛ بل سعيه للضغط على السياسات المالية العامة، حتى لا تتبنى سياسات توسعية تقوض جهوده في مكافحة التضخم. وربما ستتكرر الحالة الأوروبية مجدداً بالتأخر في التعافي؛ ليس فقط لمشكلات الطاقة والحرب، ولكن لما تعانيه القارة العجوز من تحديات ديموغرافية، بزيادة نسبة الشيخوخة، وتراجع معدل نمو السكان، وتراجع الإنتاجية، وانخفاض نسب الإنفاق على الابتكار والبحث والتطوير باستثناءات محدودة.
ما يعنينا هو الأثر الصافي لهذه التغيرات، والتدافع بين الاقتصادات العالمية الكبرى، على البلدان النامية. فقد أفصحت سجلات الأزمات العالمية الأخيرة عن أن الدول النامية؛ خصوصاً ذات الدخل المتوسط منها، هي عادة الخاسر الأكبر فيها إلا قليلاً، كما أن الأشد اضطراباً وعرضة لمخاطر هذه الأزمات داخل هذه الدول متوسطة الدخل هي أسر الطبقة الوسطى. فالشرائح الغنية لديها ما يحميها من هذه الأزمات؛ بل قد تستفيد منها وفقاً لمصادر ثرواتها ودخولها، أما الشرائح الأقل دخلاً فأصبحت لها منظومة متعارف عليها لشبكات الحماية الاجتماعية والدعم العيني والنقدي، بتكاليف محددة في موازنة الدولة، والتي يمكن أن تحمي هذه الشرائح شريطة تفعيلها المبكر بكفاءة، قبل زيادة تأثير احتدام الأزمات عليهم.
وما أقصده بفخ الوسط يشمل الدول متوسطة الدخل، والتي تشكل ثلث اقتصاد العالم، وتضم 75 في المائة من سكانه، ويعيش فيها أكثر من 60 في المائة من فقراء العالم. وتنتمي إلى هذه المجموعة أغلب البلدان العربية، وأعداد متنامية من البلدان الأفريقية تشكل الثقل السكاني للقارة السمراء. وقد أشرت من قبل إلى أن الدول متوسطة الدخل لا تتمتع بمزايا الدول المتقدمة في الاقتراض الرخيص بعملاتها المحلية من الأسواق الدولية بلا مخاطر في سعر الصرف وتقلباته. كما أن دول فخ الوسط لا تستفيد من مزايا الاقتراض الرخيص الميسر من المؤسسات التنموية الدولية، كالذي تستفيد منه الدول الأفقر والأقل دخلاً. فقد حُرمت الدول متوسطة الدخل من جل التمويل الميسر بافتراض مضلل وفضفاض بأن لديها قدرات لتدبير احتياجاتها التمويلية، من خلال مواردها المحلية واستثمارات القطاع الخاص، والنفاذ إلى الأسواق المالية الدولية. فسبل التيسير لحياة الفقراء ومتوسطي الدخل مطلوبة بما يتجاوز اعتبارات التصنيف العقيمة للدول، وفقاً لشرائح دخول تختزل واقع التنمية في متوسطات مضللة، لا تأخذ في الاعتبار التفاوت الحاد في توزيع الدخل، أو مدى الهشاشة عند التعرض للصدمات.
إذن لدينا معضلتان يلخصهما فخ الوسط: مرة إذا وقعت فيه الدول متوسطة الدخل، ومرة أخرى إذا تناولنا أوضاع الطبقة الوسطى بهذه البلدان في الاعتبار. وأضيف إلى ذلك ما قد نلاحظه أيضاً من تحديات تتعرض لها المشروعات المتوسطة، فالشركات الكبرى لها الحظوة في التمويل بمعاملات تفضيلية من البنوك والأسواق المالية، والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر تتوفر لها حزم مساندة بدعم محلي أو خارجي، أما المشروعات المتوسطة في كثير من البلدان النامية فلا سند لها أو معين في أجواء الأزمات، فلا هي طالت حظوة الشركات الكبرى، ولا هي أصابها إغداق الداعمين للمشروعات الصغرى. ولهذا ينتشر تعبير الوسط المنسي لوصف حال من وقع تصنيفه في خانات الوسط؛ سواء كانت دولة أو شركة أو أسرة منتمية للطبقة الوسطى.
ويستلزم الأمر مراجعة لسبل تيسير التمويل في وقت الأزمات. ففيما يتعلق بالبلدان النامية تجب إعادة النظر فيما تحصل عليه من المؤسسات المالية الدولية، وشروط اقتراضها المغالية، بتيسير هذه الشروط؛ سواء من حيث التكلفة أو فترة السماح أو مدة التمويل. وقد اقترحت على سبيل المثال ألا تزيد تكلفة تمويل العمل المناخي على 1 في المائة، بفترة سماح لا تقل عن عشر سنوات، وفترة سداد لا تقل عن عشرين سنة، ويمول هذا الدعم من تعهدات المائة مليار دولار الموعودة من البلدان المتقدمة التي لم تصل بكاملها أبداً للبلدان النامية. وبالنسبة للشركات المتوسطة فتجب مساندة الواعدة منها ذات المكون التكنولوجي الرائد، وصاحبة الإسهام الملموس في التشغيل والابتكار والتصدير. أما أسر الطبقة الوسطى فينظر لها على أنها سند الاستقرار المجتمعي، المحافظة على قيمه، وبين شرائحها يحدث الحراك الاجتماعي المطلوب للتقدم.
وفي عهد صعود الاقتصاد الياباني بعد الحرب العالمية الثانية، كان إذا سئل الشباب عن أي مركز اجتماعي يرغبون فيه مستقبلاً، تأتي الإجابة تلقائية برغبتهم في أن يكونوا مثل سائر الناس. ففي المجتمعات التي تشكل الطبقة الوسطى غالبية مكونات هرمها السكاني والاقتصادي، يكون طموح الفرد وتوقعه أن يكون مثل عموم الناس دون نقصان.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن مستجدات اقتصاد العالم وفخ الوسط عن مستجدات اقتصاد العالم وفخ الوسط



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أشرف حكيمي يمدد عقده مع باريس سان جيرمان حتي عام 2029

GMT 18:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 09:37 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ثوران بركاني جديد في أيسلندا يهدد منتجع بلو لاجون الشهير

GMT 22:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 11:06 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مستشفى كمال عدوان بدون أكسجين أو ماء إثر قصف إسرائيلي مدمر

GMT 10:21 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل اعتقلت 770 طفلاً فلسطينيًا في الضفة منذ 7 أكتوبر

GMT 12:02 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

قصف إسرائيلي يقتل 8 فلسطينيين في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة

GMT 08:39 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أجمل السراويل الرائجة هذا الموسم مع الحجاب

GMT 16:52 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية

GMT 17:12 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 07:01 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab